الاتجاهات السياسية في غرب كوردستان

روماف – رأي 

جان كورد 

المعلوم عن الحركات والاحزاب الكوردية في غرب كوردستان غامضٌ بعض الشيء لدى كثيرين من الدارسين والعاملين في الحقلين السياسي والإعلامي من عربٍ وتركٍ وفرسٍ وسواهم، وهذا الغموض له أسبابٌ عديدة، منها كثرة هذه التنظيمات الكبيرة والصغيرة المنتشرة على بقعةٍ ليست واسعة من سوريا، ومنها القمع الطويل الأمد تلريخياً من قبل مختلف الحكومات السورية عبر عقودٍ من الزمن، حيث أرغمت سياسة الاضطهاد الشاملة العمل السياسي الكوردي على الممارسة والنشاط في حدودٍ ضيقة من العلنية والبقاء في عتمة الحراك السرّي، فظلت من دون مكاتب وإعلام وقدرات، واتسمت بالضعف لدرجةٍ يمكن القول بأنها كانت ممزّقة و مشلولة، رغم كل محاولات المخلصين في صفوفها للخروج من تلك الأوضاع السيئة وتوحيد قواها والتحرّك في العلانية وممارسة عملها في تحدٍ صارخ للنظام الاستبدادي، العنصري، المتخلّف الذي كان دأبه القضاء على المعارضة باستمرار، كوردية أكانت أم عربية، 
وكانت الحركة الكوردية توصف في ملفات اعتقال المناضلين الكورد ب”الانفصالية!” و”ضم جزءٍ من سوريا إلى دولة مجهولة!” من دون تحديد أو إعلان اسم تلك الدولة المزعومة. بل إن معظم المناضلين الذين كان يتم الزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات، وبخاصة منذ انتزاع الحكم في البلاد من قبل البعثيين العنصريين في عام 1963 وإلى اندلاع ثورة الشعب السوري في عام 2011 كانوا من الذين خدموا لسنواتٍ طويلة في الجيش السوري، ومنهم من نال أوسمة الشجاعة والخدمة الجيدة أو  لأنهم ساهموا في الحرب دفاعاً عن “الوطن المشترك!”، كما أعلم من تجربتي الخاصة أن محققاً كان قد درس القانون أنكر عليّ القول لدى التحقيق معي بأن الشعب الكوردي مضطهد في سوريا، فها هو “مقهى الأكراد” في مدينة حلب حسب قوله، في حين لا يوجد “مقهى البدو”… وأتبع اكتشافه العظيم ذاك بابتسامةٍ عريضة… وأتذكّر أن عدة طلابٍ كورد كان قد حُكِم عليهم بالسجن لمدة عامٍ واحد ونفذوا الحكم فعلاً لأنهم نادوا معاّ في احتفال بعثي في مدينة قامشلي “عاشت الأخوة العربية – الكوردية!” فهل يمكن تصوّر مثل هذه الدناءة القضائية في أي دولةٍ متخلفة من دول العالم؟ ألا يحرّض هذا السلوك الوضيع الكورد وغيرهم من المضطهدين على إبداء ردود أفعالٍ قوية، ومنها رفض فكرة “الوطن المشترك” أو “الوطن النهائي” جملةً وتفصيلاً”؟ أعتقد أن العالمين بقوانين الفيزياء والسياسة العامة يدركون ذلك تماماً.
وما أسهم في نشوء أفكارٍ سلبية للغاية، ومنها أفكارٌ عنصرية لدى السوريين بشكل عام تجاه الشعب الكوردي وقضيته القومية العادلة وحراكه السياسي، هو أن الإعلام في سوريا كان ولا زال في أيدي أزلام النظام دون غيرهم من رجال المعارضة والإعلام في البلاد، ومن هذه الأفكار التي انتشرت في ظل سلطة حزب البعث العنصري هو أن الكورد ليسوا قومية ولا أرض لهم ولا لغة مشتركة لهم وهم متخلفون أوباش لا يخضعون لأي نظام ويجب صهرهم في بوتقة الأمة العربية والقومية العربية، بل إنهم على علاقة وطيدة باسرائيل والامبريالية وأعداء العروبة! كما أن إعلام المعارضة ومنه الإعلام الإخواني، الذي تحوّل إلى “إعلام مهاجر” تحت ضغط نظام الأسد  ذي السمة الطائفية قد ساهم في السعي بذريعة الدين المشترك ووحدة الأرض العربية، في التنكّر لحقوق الشعب الكوردي وفي تشويه الدين فيما يتعلّق بهذا الشعب، إلى جانب إعلام النظام الذي يعارضه في كل شأن… وبالفعل ثمة قصص غريبة وعجيبة عن أفكار الإخوان “المسلمين!” ومن على شاكلتهم حيال القضية الكوردية، ومن ذلك وقوفهم مع مجرم العصر “صدام حسين” ضد الشعب الكوردي في العراق كمثالٍ صارخ على انحيازهم لأفكار البعث الهدامة في حين ظلوا على الدوام يخطبون في المساجد داعين إلى “الأخوة في الإيمان!”.
هذه الأوضاع غير الديموقراطية وغير الانسانية في سوريا تسببت، إلى جانب أسبابٍ عديدة أخرى في تشتيت الحركة السياسية في غرب كوردستان، فتعددت الولاءات واشتدت الخلافات وتعاظمت الانشقاقات بتأثيرات مختلفة المصادر، منها المحاولات المستمرة من قبل الأجهزة الأمنية السورية لفرض ما تشاء على أطرافٍ من هذه الحركة، ومنها بسبب الولاءات لأحزاب كوردستانية من خارج سوريا، ومنها فكرية إلى حدٍ ما، كما كان للحزب الشيوعي السوري دورٌ في نشر أفكاره الأممية في جسد الحركة القومية الكوردية، في حين أن الحركات الإسلامية والاتجاهات الطائفية والمذهبية لم تتمكّن من اقتحام البيت السياسي الكوردي في أي وقتٍ من الأوقات لأنها كانت ترفض وجود حركة قومية كوردية إطلاقاً في حين أنها لم تكن بذات النظرة السيئة حيال القومية العربية، بل كانت تعتبرها -حسب علمي- وعاءً لسائر الشعوب الاسلامية لأن القرآن باللغة العربية، وبرأي بعضهم هو أن كل من يتكلّم العربية فهو عربي، أي أن زعماء وإعلاميي اسرائيل الذين بعضهم يجيدون العربية مثل أحفاد قحطان هم “عرب”، وهذا ما صدّهم عن التوغّل قي حقل السياس
الآن، لدينا في هذه البقعة من بلاد الكورد إتجاهات عديدة، منها:
– الأممي الذي يمثله حزب العمال الكوردستاني الذي يسيطر على مفاصل القيادة وإدارة التوجيه في حزب الاتحاد الديموقراطي، السوري شكلاً والتابع المطيع عملاً لحزب السيد أوجلان الذي قيادته في جبل قنديل بجنوب كوردستان (شمال العراق)، ويعتبر حزب الاتحاد الديموقراطي ذاته حزباً “غير كوردي” في إعلامه القوي، ويسعى لحلٍ ديموقراطي لسائر قضايا المكونات السورية على ضوء الأفكار الأممية لزعيمه السيد أوجلان المعتقل منذ عقدين من الزمان في تركيا، حيث تحوّل من قائد ثورة وطنية كبيرة
– إلى مواطن مخلص لأفكار وسياسة مصطفى كمال العدو الأوّل للشعب الكوردي حسبما كان أوجلان نفسه يقول وينشر عنه. وهذا الاتجاه المتأثر بفلسفة أبي الفوضوية الشهير عالمياً موراي بوكتشين التي اتسع نطاق المؤمنين بها بعد أن تخلّوا عن الماركسية – اللينينية لا يؤمن بحق الأمة الكوردية في إقامة أي كيانٍ قومي لهم، بل إنه سيقاوم من يعمل له بكل قوته العسكرية العظيمة، فالأوامر التي يتلقاها من قيادة حزب العمال الكوردستاني صريحة في هذا المجال، أي رفض حرية واستقلال الكورد في وطنهم كوردستان. وقد حاول هذا الاتجاه إيجاد برزخ له بين نظام الأسد والمعارضة السورية، فلا النظام اعترف به كتنظيم سياسي سوري ولا المعارضة اعتبرته تنظيماً سورياً، بل اتهمه الطرفان ب”الانفصالية” ومحاولة “إقامة كيان كوردي على الأرض السورية”، وقد سعت تركيا إلى القضاء على وجود هذا التنظيم واعتبرته حتى اليوم إرهابياً على الرغم من كل مساعي قياديي هذا التنظيم لإرضاء تركيا ولإقامة علاقات حسن جوار معها… ففي هذا الحقل لا نرى دولة كوردية أو فيدرالية قومية أو حتى حكم ذاتي كوردي في سوريا وإنما هلامية سياسية غير محددة جيداً في ظل الأفكار الطوباوية عن “أخوة الشعوب” و “عالم الأمم الديموقراطية!”، ولا أدري هل هناك  في سوريا من يدعو للحرب بين الشعوب أو أن هناك “أمم دكتاتورية!” في العالم.
– و هناك الاتجاه الديموقراطي الذي يكاد يكون الأكثر قبولاً من الشعب الكوردي، وكتلته المتماسكة والأكبر حجماً والمقبول كحليف من قبل المعارضة السورية هي (المجلس الوطني الكوردي) المعروف ب”الأنكسة”، رغم رفض غالبية الشعب الكوردي لانضمام الأنكسة إلى إئتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية الذي يؤيد مطالب الكورد القومية في سوريا على الورق، إلاّ أنه يدعم بشكل عملي -مع الأسف- سياسة حكومة العدالة والتنمية التركية في المناطق الكوردية المحتلة من قبل الجيش التركي، وهي سياسة التغيير الديموغرافي لإنهاء الوجود الكوردي فيها، وعلى الأخص في منطقة جبل الكورد التي مركزها مدينة عفرين الخاضعة الآن لحكم الفصائل المرتزقة والدموية المتنافسة في مجال النهب والسلب والتقتيل والتعذيب، والتي فاقت جرائمها جرائم المغول والتتار في العصور الماضية بالتأكيد.
هذا الاتجاه يشمل العديد من التنظيمات الحزبية المتفقة على النضال من أجل حق الشعب الكوردي في الحياة الكريمة والحرية والسلام والأمن والاستقرار ضمن حدود الدولة السورية ولا يملك قوات قتالية في سوريا، ولكن ثمة جيش مدرّب له بشكل حرفي في اقليم جنوب كوردستان، يرفض الاتجاه الأول الذي ذكرناه آنفاً دخوله الأراضي السورية ويهدد بالقتال ضده ومنعه من البقاء في سوريا لأسبابٍ غير معقولة وبذريعة أن المناطق الكوردية في سوريا لا تتسع لجيشين، وعلى مقاتلي (لشكرى روژ) التابع للأنكسه أن ينضموا كأفراد إلى قوات (قسد) التابعة لهذا الاتجاه… وهذا يعني قبول أفكار السيد أوجلان التي تمليها عليه المخابرات التركية ويأخذ بها طوعاً أو كرها.
  إتجاه الأنكسة الديموقراطي يؤمن بالحوار بينه وبينه حزب الاتحاد الديموقراطي الهلامي الأفكار وقد انعقدت ببن الطرفين اجتماعات عديدة في هولير (أربيل) و (دهوك) حيث توصلا إلى اتفاق مبدئي لم ينفّذ، كما تحاورا مدةً طويلة في مدينة قامشلي، بحضور الوسيط الأمريكي، إلاّ أن زاوية الانفراج بين الطرفين في اتساع بسبب الممارسات اللاديموقراطية الطائشة التي يمارسها بعض مسؤولي حزب الاتحاد الديموقراطي تجاه الأحزاب الكوردية الأخرى، في وقتٍ يحاول النظام السوري بدعم روسي السيطرة التامة على شمال شرق سوريا، ويحاول الأتراك ضمّ تلك المناطق إلى بلادهم، مثلما فعلوا سابقاً مع لواء اسكندرون السوري، ولا زالت الحركة السياسية الكوردية عاجزة عن إيجاد أساسٍ مشترك للعمل من أجل شعبنا المغدور.
ليس في صفوف الحراك الكوردي السوري اتجاه عنصري كما هو الحزب القومي التركي المبني على أساس العنصرية الصارخة مثلاً، وليس هناك تنظيمات كوردية دينية متطرّفة كما لدى المعارضة السورية حالياً، ولكن ثمة اشتراكيين وتيار يقبع في أحضان النظام السائد، كما هناك من ينادي الآن بحذف كل ما هو كوردي من برامج الأحزاب الديموقراطية الكوردية والسعي لترسيخ أفكار “المواطنة التامة والعادلة” و”تأمين الحقوق الثقافية للكورد” دون أي مطالبة بفيدرالية أو حكم ذاتي أو إدارة ذاتية… أي قبول “الإدارة المحلية” كما هي في ظل الدستور الحالي، بل هناك أيضاً تنظيم شيوعي صغير لا زال يحلم رؤساؤه بعودة “الربيع الماركسي- اللينيني”، حيث سيحصل الكورد فيه على حقوقهم القومية كاملة.
وعليه يجب كف أنصار النظام وأنصار المعارضة وأتباع النظام الأردوغاني وكل الإعلاميين في شرقنا الأوسط عن اتهام الكورد بالإرهاب فليس هناك “إرهاب كوردي” وبالانفصالية أو السعي لبناء دولة خاصة بهم، على الرغم من أن حق تقرير المصير لايستثني الشعب الكوردي، وثمة شعوبٍ أقل سكاناً وأضيق أرضاً مما لدى الكورد وتتمتّع باستقلالها وحريتها على أرض وطنها… فلماذا يزعق الديموقراطيون كالغربان ويقفون مع المعتدين الظالمين ضد مطالب الشعب الكوردي العادلة وينافسونهم في كيل الاتهامات للكورد عموماً وحراكهم السياسي السوري خصوصاً؟

 

شارك المقال

مقالات أخرى