الديموقراطية في كوردستان

روماف – رأي

جان كورد – 31/12/2021
بدايةً يجب الاعتراف بأن المجتمع الكوردستاني يحتاج إلى الكثير من التحولات والتطور على العديد من المستويات ليستقر كمجتمعٍ ديموقراطي، فنحن لا زلنا حتى الآن في ما يسمى ب”عتبة الديموقراطية”، لأن الديموقراطية التي تعني “حكم الشعب” عرفها الهنود منذ أكثر من ستة قرون من الزمن قبل الميلاد، وكانت على ألسنة الفلاسفة والأدباء والسياسيين اليونان منذ القرن الخامس قبل الميلاد، لم تظهر في كتابات قدامى العرب والكورد والفرس والأترك وسواهم، ولم يتطرّق إليها الشعراء والفلاسفة الكبار من أمثال ابن خلدون وابن رشد أو العلماء الفطاحل مثل ابن تيمية، فالمعروف لدى علماء بلادنا كلها أن الديموقراطية تعني العداء للشرع الإسلامي، أو بالعكس فإن المؤمن بالإسلام لا يمكن أن يقبل الديموقراطية، في حين أن هناك قاعدة ساطعة في الإسلام تقول (وأمرهم شورى بينهم) وهل الديموقراطية سوى مشاورة الرعية في أمورها الحياتية؟ وقد بيّن بعض العلماء في القرن العشرين مدى تداخل دائرتي (الشورى الملزمة) في الإسلام و(الديموقراطية) التي تعني “العودة إلى الشعب” في بعضهما بعضاً، ومنهم العلامة الكوردستاني محمد صالح كابوري رحمه الله، إذ يقول: “إن موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية وَضَعَ الإسلام في خندق الدكتاتورية وجرّده من حقه وعدالته وشوه صورته ولوث سمعته وترك الباب مفتوحا لنشوء دكتاتوريات فردية وجماعية في الأسرة والعشيرة والقوم وأنظمة الحكم وكذلك الشأن في المذهب والفرقة والطريقة.” (أنظر: كتاب تحرير الكرد وتوحيد كردستان “بيان 61 الديمقراطية”)
تطورت الديموقراطية المباشرة التي كان شعب كل مدينةٍ من المدن اليونانية، سوى العبيد والنساء، يدلي بأصواته مباشرةً من دون نواب أو وكلاء أو برلمانيين يمثلونه، ومرّت بمراحل، كما تأثرت بأفكار فلاسفة التنوير توماس هوبز وجون لوك وإيمانويل كانت، والثورة الفرنسية، كما تعرّضت لإنتكاسات موجعة بظهور القوميات التي أنجبت فلسفاتٍ مدمرة مثل النازية والفاشية، ومن بعدها الشيوعية التي عملت على تشويه الديموقراطية الليبرالية بكل ما أوتيت من قوّة، والديموقراطية الليبرالية شكل من أشكال الديمقراطية النيابية حيث السلطة السياسية للحكومة مقيدة بدستور يحمى حقوق وحريات الأفراد والأقليات (وتسمى كذلك الليبرالية الدستورية)… ولقد حدثت إنتكاسات فظيعة في المسار الديموقراطي للشعوب، التي لم يكن لأحدها نظام ديموقراطي متين وسليم قبل عام 1900م، ولكن خلال قرن من الزمن صارت بلدان عديدة في العالم تسير على طريق الديموقراطية بتفاوت في السرعة، حسب تقريرٍ خاص ب(فريدوم هاوسFreedom Haus -) المنظمة الأمريكية الخاصة بشؤون الحريات، في حين أن الأديان دعت إلى أفكار المساواة والعدالة ورفض العنصرية والحقوق الفطرية للإنسان، واستغل الحاكمون مناصبهم وقواهم لإبعاد محكوميهم عن أي فكرة قد تصب في مجرى النظام الديموقراطي، بل وجدوا في الديموقراطية عدواً كافراً يجب محاربته، بينما يؤكّد الأستاذ كابوري الذي كان يدرّس علوم القرآن حقبةً طويلةً من الزمن على أن “-الديمقراطية الدينية تلتقي مع الديمقراطية الفطرية التي نسميها الإنسانية, فحرية الإنسان في تصرفه واختياره والحفاظ على حقوقه مبدأ إنساني تقره العقول السليمة كما يقره الدين الإسلامي الحنيف, فتلتقي الدائرتان الدينية والإنسانية في العناصر المشتركة وينظم الخلاف ليتمكن أهل الأديان وبخاصة المسلمون من التعايش بأمان وسلام مع الناس, وهذا التعايش المكون من التقاء الدائرة الدينية بالدائرة الإنسانية اتفاقا مع تنظيم الخلاف, ويمكن تسميته بالديمقراطية العرفية.” (أنظر الكتاب ذاته)
وثمة أشكال للديموقراطية منها: الديموقراطية المباشرة والديموقراطية البرلمانية والديموقراطية التشاركية . الشكل الأوّل كان يمارس في المدن اليونانية القديمة، والبرلمانية هي المنتشرة على نطاقٍ واسع، وثمة دول كبرى تمارسها، مثل الهند والولايات المتحدة الأمريكية وجنوب أفريقيا وكندا واستراليا ودول الاتحاد الأوربي، في حين أن التشاركية تعني مساهمة قوى المجتمع المدني بقوّة في اتخاذ القرار السياسي للمجتمع، وهي الأحدث من بين الديموقراطيات في العالم. وتسعى هذه القوى لترسيخ المواد المتعلقة بحقوق الإنسان والأقليات في دساتير البلدان، بحيث لا تستطيع الأغلبيات البرلمانية تجاوزها رغم أنها هي الحاكمة دستورياً.
أما في كوردستان، فإن الحراك القومي – السياسي قد تأثّر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بالأفكار القومية والديموقراطية والبرلمانية من خلال الاحتكاك بالعالم الغربي وبوجود المستعمرين البريطانيين والفرنسيين المتزايد في كوردستان، كما ظهر تأثير أفكار الشيوعية في الأمة الكوردية على أثر نجاح ثورة أوكتوبر البلشفية في روسيا… ولكن الشريعة الإسلامية كانت هي الحاكمة السائدة، لدى محتلي كوردستان من الدول التي نالت أجزاءً من أرض كوردستان على أثر المعاهدات الاستعمارية بين (1916- 1923 )… فلم تكن هناك ديموقراطية يونانية مباشرة، ولا برلمانات في كوردستان لتبنى عليها ديموقراطية نيابية، كما لم تتكوّن لدى الكورد قوى للمجتمع المدني حتى تكون لهم ديموقراطية تشاركية، أو نظام ليبرالي محدود بدستور يقيّد سلطات الأغلبية البرلمانية.
أثناء الحرب العالمية الثانية انبهر الوسط الثقافي الكوردي بمجريات الحرب، والانتصارات التي تحققها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على النازية وعلى العسكريتاريا اليابانية، وانعكس ذلك على الصحافة الكوردية التي تولّى أمرها ونشرها عددٌ كبير من الكتّاب والشعراء الناضجين وأمراء الكورد، إلاّ أن ظهور الحزب الديموقراطي الكوردستاني في كلٍ من شرق وجنوب كوردستان، لم يكن على أيدي تلك الفئة المثقفة والمتنوّرة وإنما على أيدي رجالٍ محافظين بكل معنى الكلمة وفي مقدمتهم العالم الإسلامي، القاضي محمد الشهيد، والملا مصطفى البارزاني الراحل، وهو من عائلة كانت على رأس الصوفيين، من سكان الجبال وليس المدن، ويجدر بالذكر هنا أن الأوّل على الرغم من علاقاته الحسنة في البداية مع الروس وزيارته لروسيا الشيوعية بعد الإعلان عن قيام جمهورية (كوردستان) في عام 1946م والثاني رغم عيشه كلاجىء في روسيا لمدة 12 عاماً لم يتأثّرا بالأفكار الشيوعية رغم أن العرب كانوا يطلقون على القائد البارزاني لقب ” الملا الأحمر” أي “الشيخ الشيوعي”… وبتأسيس الحزب “الديموقراطي” في كوردستان بدأت مسيرة الكفاح من أجل المجتمع الديموقراطي بين الكورد، إلاّ أن المؤسسات الديموقراطية وفي مقدمتها “البرلمان” فلم تتعرّف عليها كوردستان إلاّ بعد انتفاضة عام 1991م ضد حكم الطاغية العراقي صدام حسين، حيث جرت في عام 1992م أوّل انتخابات حرّة وديموقراطية في اقليم جنوب كوردستان، وكم كانت فرحتي كبيرة وأنا أرى من على سطح أحد المنازل رتلاً من نساء الكورد المحجبات يقتربن من مركز للانتخاب في إحدى المدارس، وكم كانت دهشتي كبيرة لرجلٍ في الخمسين من العمر، كان يرغم سائق عربة نحن نستقلها معه على الطريق بين علي بيك والعمادية عبر الجبال ليقوم بواجبه الانتخابي، فيقول له سائق العربة: كاكا (أي أخي الأكبر) لن يسمحوا لك بإعادة التصويت، فانت انتخبت قبل ركوبنا السيارة، أفلا يكفي؟” فيرد الرجل: “- وهل تمنعني من التلذذ بتكرار التصويت في أوّل انتخابٍ في حياتي، وعلى الأخص حين يُسمَح لي بانتخاب مرشحي حزبي الذي أحبه، حزب المام جلال؟”
ومع الأيام زاد عدد الأحزاب الكوردية التي تحمل اسم “الديموقراطي”، ومنها من صار عضواً في الاشتراكية الدولية التي تتبنى الاشتراكية – الديموقراطية كالحزب الديموقراطي الكوردستاني – إيران والاتحاد الوطني الكوردستاني، إلاّ أن الديموقراطية الفعلية والحقيقية في الأحزاب الكوردية وفي المجتمع الكوردستاني لا زالت في طور النشوء، حتى أن بعض التنظيمات التي لا تؤمن بالديموقراطية تحمل اسماً “ديموقراطياً”، مثل حزب الاتحاد الديموقراطي، في غرب كوردستان، حيث لا يسمح لأي تنظيمٍ معارضٍ لنهجه الفكري – السياسي بالعمل الحر والديموقراطي، بل يحرق مقراتها وراية كوردستانها وسجلاتها ويمنع قواتها العسكرية من الانتشار في وطنها، ويزج بكوادرها في المعتقلات بحجج واهية مثل المتاجرة بالمخدرات والتجسس لصالح تركيا وغير ذلك من الممارسات الشائنة والتلفيقات الكاذبة، وفي مقدمتها عدم الاكتراث بنداءات أمهات القاصرين والقاصرات من الكورد المختطفين لزجهم في صفوف مقاتليهم الذين يتم تدريبهم وتعليمهم حسب آيديولوجيةٍ كوسموبوليتية غريبة عن كوردستان حقاً. كما يحرّك الحزب “الديموقراطي!!!” هذا مئات الشباب للهجوم على أحد أعرق الأحزاب الديموقراطية في كوردستان تحت اسم “جوانين شورشكر – الشبان الثوار” وليست الديموقراطية سوى برقعٍ باهت اللون في هذا التنظيم الذي يكاد يتعارض في كل سياساته عن مصلحة الشعب الكوردي العليا.
والديموقراطية ليست في إيجاد أو وجود “برلمان” فحسب، بل في تنشئة الأجيال الوطنية المؤمنة منذ الصغر بالتشارك الجماعي في بناء الصرح القومي المتين، وفي تعزيز الحراك المطالب بحماية حقوق المستضعفين في المجتمع، وفي مقدمتهم الأقليات، وضمان مشاركة المواطنين دون استثناء في الحصول على حقوقهم المادية والفكرية والسياسية والدينية والاقتصادية، في ظل دستورٍ يضمن نشوء مجتمعٍ ديموقراطي حقيقي…

شارك المقال

مقالات أخرى