صراع الكبار وانقلاب المفاهيم والثقافات السياسية العالمية

عزالدين ملا
عزالدين ملا عزالدين ملا 76 Views

روماف – رأي

كأنَّ التاريخ يعيد نفسه، حيث ظهرت حضارات عظيمة، واندثرت، قامت إمبراطوريات وممالك عملاقة، واختفت، تأسست دول كبرى وانهارت، معظمها سيطرت على العالم وحكمت بقبضة من حديد، والآن هذه الدول انكمشت أو لم يبقَ لها وجود.

وما آلَ إليه الآن من تحركات دراماتيكية وسياسية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم، توحي أن هناك انقلاباً على كافة المفاهيم والثقافات الدارجة على الساحة الدولية، في وقت أصبحت الولايات المتحدة الأميركية (الآمر الناهي) في كل تفصيلة صغيرة أو كبيرة وكل شاردة وواردة، إضافة إلى سياساتها غير المعلنة ووجود تناقض بين ما تخرجها للعلن وبين ما تضمرها، وبذلك أدخلت الإرباك والشك والحيرة إلى مضاجع الدول الإقليمية والعالمية وخاصة حلفاءها، حيث بدأ يساورهم الريبة والخوف من أن ينقلب السحر على الساحر.

القوة الأميركية تفرعت وتعاظمت أكثر منذ أن انهار نظام القطبين العالمين بانهيار الاتحاد السوفييتي، وبدأ العالم يسير وفق أحادية القطب، ظهرت اضطرابات في العديد من الدول العالمية وتفكك المنظومة العالمية التي كانت تسير على مبدأ إرساء السلام في العالم وتوسيع اقتصاديات الدول وتقويتها، وكان كل قطب تُفتح آفاق التحديث والتطوير أي بمعنى الشكلية التنافسية في مصادر الطاقة والتكنولوجيا، انتشر الرفاه والسلام في معظم الاتجاهات العالمية.

بعد ان تحول النظام العالمي إلى القطبية الواحدة، بدأت انهيارات تتابعية لجميع الأوضاع إن كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية.

وكانت أولى الانهيارات تفكك تشيكوسلوفاكيا، من ثم الحرب الأميركية في افغانستان بعد هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001، والغزو الأميركي للعراق 2003.

في افغانستان سيطرت الولايات المتحدة الأميركية عليها لمدة عشرين عاما والغاية كانت محاربة الحركات الاسلامية المتشددة من حركة الطالبان والقاعدة، ولكن بعد هذه المدة تنسحب أميركا وتسلمها لقمة سائغة لحركة طالبان، دون الاكتراث إلى تداعيات انسحابها على الشعب الأفغاني من انتقامات جماعة طالبان.

وفي العراق، تم اسقاط النظام البعثي الصدامي، وتم تشكيل حكومة اتحادية، ولكن قامت أميركا بإطلاق يد إيران لتعيثها فساداً وظلماً، والآن العراق يغوص في مستنقع رهيب من الطائفية والعنصرية تحت رحمة الميليشيات الإيرانية الفاسدة والمرتزقة من جهة وصراع الكتل الطائفية على السلطة في بغداد من جهة اخرى.

وعند بدء ثورات الربيع العربي عام 2011 بدأت سياسات الدول تطفو بشكل أوضح على السطح عدا سياسة الولايات المتحدة الأميركية التي تتجه نحو الغموض وعدم الإفصاح عن سياستها وحتى لحلفائها أيضاً حسب ما اعتقد، مما دفعت دولا عديدة إلى اتخاذ مواقف الحذر والحيطة تجاه السياسة الأميركية.

وكانت الحرب الروسية الأوكرانية شاهد عيان على تلك السياسة، حيث دفعت أميركا إلى استفزاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهة ودفع بالرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى اتخاذ سياسة التعنت في الجهة المقابلة. كل ذلك كانت النتيجة دمار أوكرانيا وإرباك الاتحاد الأوروبي في مواجهة الحاجة إلى الطاقة والغاز، كما وظهرت تداعياتها على مستوى العالم وخاصة في الوضع الغذائي، أدت إلى انهيارات تدريجية لاقتصاديات دول عالمية وخاصة الأوروبية منها والاسيوية والافريقية والتي كانت تعتمد على السلة الأوكرانية الغذائية والسلة الروسية الغازية.

من خلال كل ذلك اعتقد أن بريق عظمة أميركا سيبهت، والهالة الاقتصادية والعسكرية الأميركية العالمية وصلت ذروتها وستبدأ تتراجع رويدا رويدا إن لم تتحكم بسياسة التوازن الدولي والإقليمي وإن لم توضح غاياتها النفذوية والمصلحية.

وعليه، تتجه العديد من الدول إلى انتهاج سياسات أخرى غير السياسة الحالية، فكان الظهور الصيني القوي اقتصاديا وتجاريا في الواجهة العالمية وخاصة في الشرق الأوسط، بداية تحول الأنظار نحو سياساتها الاقتصادية والتجارية وحتى المالية المتوازنة والمريحة والباعثة للطمأنينة والأمان في تبادل المصالح.

فكانت بداية هذا الظهور، هو الوساطة الصينية في الحرب الأوكرانية، ومن ثم تتالت تحركاتها في المنطقة وعقدت صفقات على عقود طويلة الأمد مع إيران من جهة والسعودية ودول الخليج من جهة أخرى، والتي أثمرت عنها القمة الإيرانية السعودية.

ارتفعت نجمة الصين في سماء الشرق الأوسط بسبب السياسة الأميركية الغامضة، والتي تبحث عن مصالحها العليا وأمنها القومي على حساب مصالح الدول وأمنهم، ما دفع إلى انعدام الثقة والخوف.

إن العالم يتجه إلى انهيار كيانات كبيرة جديدة وظهور كيانات أخرى من تحت الركام، وقد تكون بداية لتحالفات جديدة أكثر توسعاً وانفتاحاً، واعتقد أن كل ما يجري على الساحة الدولية قد لا تخرج من سياق السياسة الأميركية ومعرفتها ودرايتها، أو قد يكون بداية لتغيير في السياسة العالمية وظهور هيئة عالمية جديدة لإعطاء مصداقية أكثر بعد أن فقدت الهيئة العالمية الحالية والتي تحت مسمى منظمة الأمم المتحدة هيبتها، والفترة القادمة كفيلة في غياب وظهور دول وكيانات.

شارك المقال