لماذا تبتعد الدراما العربية عن الأدب؟

المصدر:ضفة ثالثة

انفصال الدراما عن الأدب
يكرر الجميع، بصوت واحد، كأنهم كورس في فرقة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج: إنها مشكلة الورق، أي النص المكتوب.
السؤال الذي يلحّ عليّ من دون أن أتوصل إلى إجابة شافية له حتى اليوم: من أين يأتي كتاب الدراما العربية؟ بمعنى آخر، كيف يصل هؤلاء الكتاب، بأفكار تقليدية، إلى شركات الإنتاج الضخمة؟ أو ربما يجب أن يكون السؤال بالعكس، أي كيف تجد شركات الإنتاج الضخمة كتاب الدراما الرديئين؟
لماذا تغزو الأفكار السطحية الشاشة العربية، خاصة في رمضان، حيث تتكثّف الجهود لإنتاج دراما خاصة مشغول عليها، تظهر جميعها في أفكار قديمة متخلفة رجعية مهلهلة. ما هي قوة كاتب ما، يفتقد إلى الإبداع، لدخول عالم الصورة والإنتاج الضخم، بنص سطحي؟ أم أنها رغبة الإنتاج ذاته في متابعة تدجين الجماهير، فتكلف كتابًا يشتغلون وفق الوصفة المخطط لها مسبقًا؟ والسؤال الأهم من كل هذه الأسئلة، والذي يختصرها جميعًا: لماذا تبتعد الدراما العربية عن الأدب، وبدقة أكثر، عن الرواية؟ ففي الوقت الذي يشيد به صناع الدراما بأعمال ناجحة مأخوذة عن أعمال أدبية، مثل مسلسلات “أفراح القبة”، “حديث الصباح والمساء”، و”لا تطفئ الشمس”، لا تزال الدراما تغزو بيوت العرب بأعمال رديئة تداعب العواطف الساذجة، وتقتل العقل والتأمل والخيال.
إذا كانت المشكلة الرئيسية لتأخر أو تراجع الدراما العربية هي سوء النص، فلماذا لا يتم اللجوء إلى الأدب، مع ازدهار سوق الرواية العربية، وطرحها لتيمات معاصرة وتنويرية؟
لماذا تخاف الدراما من الأدب، ولماذا هذا الانزياح الكبير بين المستوى المعرفي والفكري لكل منهما؟
حين نعود بذاكرتنا إلى سنوات قريبة مضت، فإننا نعثر على أعمال درامية مهمة: “ليلة القبض على فاطمة”؛ “ليالي الحلمية”؛ “هجرة القلوب إلى القلوب”؛ “التغريبة الفلسطينية”، وغيرها من الأعمال الجادة الممتعة معًا، حيث كان المشتغلون في الدراما، من مخرجين على الأخص، ثم المنتجين، وهم الحلقة المهمة كذلك، مثقفين، مطلعين، قارئين… بينما يكاد يشعر أحدنا، حين يستمع إلى مقابلة مع مخرج، أو منتج، أو حتى ممثل، كأنه أمام شخص عادي لا علاقة له بالفن، لا رؤيا ولا تطلعات ولا وعي نقدي أو فكري أو فني.

المزاوجة بين الدراما والأدب
بسبب نسبة الأمية الكبيرة في العالم العربي، فإن الجمهور الباحث عن التسلية فرض ذائقته منذ سنوات قديمة على السينما العربية، وكنا نسمع ونحن لا نزال مبتدئين في فهم المشهد البصري، عبارة رائجة: “الجمهور عاوز كده”، في تفسير الانحطاط المعرفي والفكري في السينما الرائجة، التي تدعى بالسينما التجارية، بينما تُخصص الأفلام الجادة، والتي تحمل رؤية فنية مختلفة، لعرضها في المهرجانات، سواء كانت عربية، أو أجنبية.
استطاع المخرج يوسف شاهين الذهاب بالسينما العربية إلى العالمية، ليكون له مقعده الثابت في المهرجانات الدولية، واستطاع أن يوفق بين الرقي الفني وكسب الذائقة الشعبية، ويحصل على قبول المشاهد النخبوي والعادي معًا.
هذا يعني أن تفسير انحدار الدراما بذريعة “الجمهور عاوز كده” ليس صحيحًا، لأن الجمهور لم يعد ذلك الجالس في بيته، المبتعد عما يحدث حوله، في بلده الصغير، أو في العالم، حيث استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي إحداث ثورات معرفية، واستطاعت جذب أشخاص عاديين، بعضهم أميين، وبعضهم يتمتع بتعليم منخفض، لكنه دخل العالم الافتراضي، وحقق مكانه.

“الأمية في العالم العربي ليست عائقًا أمام الفن المرئي، وقدرة البعض على القراءة لا تعني أبدًا عدم تمتعهم بنسبة من الوعي وفهم العالم حولهم”




هذا يعني أن الأمية في العالم العربي ليست عائقًا أمام الفن المرئي، وأن عدم قدرة البعض على القراءة لا تعني أبدًا عدم تمتعهم بنسبة من الوعي وفهم العالم حولهم، ليفرضوا شروطهم الجديدة على الفن، ليصبح لدينا دراما ناضجة موازية للأدب العربي المتطور باستمرار، رغم مشاكل الكتابة العربية، لكنها تبقى متقدمة وسابقة في نضجها للدراما العربية.

سطوة الدراما وانزياح الأدب
في فرنسا، هنالك مسلسلات تعرضها المحطات الفرنسية الرسمية، وتحظى بمشاهدات، لكنني لا أذكر أن هذه الأعمال تلقى اهتمام الشارع الفرنسي، أو وسائل التواصل، بينما على العكس، الضجيج يرافق عادة، الأعمال الأدبية. عدا عن المواسم الأدبية في فرنسا، والتي ينخرط فيها كثير من فئات الشعب، وتصبح حديث الأغلبية. هنالك جوائز تختار لجان تحكيمها من قراء متطوعين محبين للقراءة، وهنالك جوائز يمنحها الطلاب. لهذا، فإن شعبية الأدب في فرنسا، وأعتقد في أوروبا عمومًا، تفوق شعبية الدراما، بينما الدراما العربية تزيح الأدب، حتى أنه يمكنني القول إن سطوة الدراما في رمضان خاصة لا تعادلها أبدًا سطوة الأدب، لا في العالم العربي، ولا حتى الغربي. وفي رأيي الشخصي، فإن البلد الذي تتفوق فيه الدراما، هذا النوع من الدراما العاطفية، السطحية فكريًا ومعرفيًا، الأقرب إلى الحبكة البوليسية، مع محتوى مكرر وممل، هذا البلد يعاني من أزمة معرفية، يجب تأملها طويلًا لفهم أسبابها، هل هي مشكلة الأدب في العالم العربي، وعدم وصوله إلى القارئ، أي أن أدبنا غير قادر على مسّ القارئ، لأنه بعيد عن اهتمامات الشارع؟ أو أن المشكلة تكمن في الجمهور العربي ذاته، الذي يفضّل الحكايات البسيطة المتاحة، وينفر من الأدب المرهق الذي يحتاج إلى الجهد في القراءة والتفكير؟
من حق المشاهد العادي اختيار أعمال درامية تسليه وتمتعه في شهر رمضان، أو في أي وقت آخر، وهذا خيار شخصي يتعلق بالذائقة الفردية، ولا يمكن محاكمته أو التعامل باستعلاء على مزاج أي شخص، وهذا النوع من المشاهدين موجود في كل مكان من العالم، ولكن هذا الانتشار، وهذه السطوة للدراما، ظاهرة عربية محضة لا نرى مثيلًا لها في العالم.

الأدب والدراما وسوق وسائل التواصل الحديثة
تعاني السوق العربية من مشكلة القراءة لأسباب كثيرة تتلخص في انتشار نسبة الأمية حتى اليوم، إضافة إلى أزمة انتشار الكتاب وتوزيعه وتسويقه والشروط الاقتصادية للمواطن العربي الذي يحتاج إلى ضروريات الحياة أكثر من “كماليات” الثقافة. بينما الدراما مجانية إلى حد كبير، تدخل البيوت بسهولة، بضغطة على زر التحكم في التلفزيون، الذي يعرض عشرات المسلسلات والأفلام.

“لماذا تخاف الدراما من الأدب، ولماذا هذا الانزياح الكبير بين المستوى المعرفي والفكري لكل منهما؟”



لهذا، فإن فرصة الدراما في التسويق والانتشار والمشاهدة أكبر بكثير من فرصة الكتاب، ولهذا أيضًا تحظى بمتابعة كبيرة في الشارع العربي، وتتسلل إلى لاوعي المشاهد العربي، وتؤثر في سلوكه اليومي.
في الوقت الذي تقوم وزارات الثقافة والمؤسسات المدنية والإعلام الثقافي من صحف ومجلات وبرامج تلفزيونية متخصصة وبودكاست يقدمه أفراد حريصون على نشر المعرفة والفكر التنويري النقدي، وكتاب وصحافيون ونقاد وأكاديميون، ببذل جهود كبيرة لتكريس عادة القراءة، ومنح الكتاب قيمة ومكانة ترتقي بعقل القارئ، يمكن لمسلسل واحد عديم المحتوى، أو بمحتوى رجعي، نسف جميع تلك الجهود. لذا فإن صناع الدراما يتفوقون في شهرتهم وانتشارهم على صناع الأدب، لأنهم يروجون لبضاعة مسلية، متاحة، لا تحتاج إلى بذل المجهود، لا المالي ولا الفكري: يجلس أحدهم أمام شاشة التلفزيون، أمامه صحن من المكسرات، أو السجائر، في بيت، أو مقهى، أو حتى في مقر العمل، ليستمتع بالمسلسل، بينما تحتاج القراءة إلى العزلة والتركيز وبذل الطاقة.
لكن الفرق كبير على المدى الطويل، لأن الأدب هو الذي يترك أثرًا في الذاكرة، وقد يؤدي إلى تغيير الناس والمجتمعات، على عكس الدراما العابرة، التي ينتهي أثرها بانتهاء عرض العمل.
القصة لم تنته، إذًا، بعد، ولم تحسم تمامًا.
أمام صناع الدراما، الذين ربما انتصروا على جمهور الأدب والثقافة، رهان مختلف وصعب، هو الانتصار على جمهور السوشيال ميديا، المنافس الأقوى، والذي قد يهدد انتصاراتهم. لذلك، فإن مهمة هؤلاء كبيرة، عليهم الانتباه إلى القيم التي يوجهونها في أعمالهم، وعدم الاكتفاء بنسب المشاهدة العالية والربح، وإلا فهم لن يختلفوا عن هواة مواقع التواصل الذي يحققون شهرة ضمن محتويات سطحية، ومن العار أن يحمل مخرج ما، أو شركة إنتاج، صيت الانتشار الموازي لذلك الذي يحققه صناع المحتوى في وسائل التواصل، فإنه من المهم الارتقاء بهذه الدراما، وعدم الاكتفاء بالتصفيق والتهليل العاطفي، لمواضيع قديمة ومتأخرة وأعمال تدور حول مواضيع متكررة.