يدرك من تابع مراسم استقبال راعي الكنيسة الكاثوليكية في العالم، البابا فرنسيس، في كلٍّ من أربيل وبغداد، حجم العذاب الذي يُعانيه إقليم كردستان وشعب العراق مع النُخب الحاكمة في بغداد. ويعلم حجم العذاب الذي يعيشانه مع تلك الطبقة التي أثقلت على نفوس العراقيين بكل مكوناتها منذ 2003، من فسادٍ وإفقارٍ وخذلانٍ في العيش. أعاد المشهد المتابع إلى فقرة “أوجد الفروق العشرة خلال ثانيتين بين الصورتين” مع فارق أن عدد الفروق تجاوز العشرات، وشملت لحظات الاستقبال والمراسم وموكب السير والحشد الجماهيري الضخم الذي شهده ملعب فرانسوا حريري في أربيل، عاصمة إقليم كُردستان.
إمكانات بغداد أكبر من كردستان، مادياً وعسكرياً وأمنياً. مع ذلك، كانت طريقة الاستقبال تسويق لطبيعة الحياة والعيش والمنجزات، والفرق بينها في المركز والطرف، بغداد – أربيل. في كِلا المكانين، ثمّة رسالة عن حجم استثمار الطاقة البشرية العقلية، بغداد عاصمة الرشيد، وفجاعة ثقافة الاستقبال وطريقته، متناسين الإرث الثقافي والفكري والبشري لهذه العاصمة. قابلته أربيل باستقبال دولةٍ، وتعاملت مع الحدث على أنه نقلة نوعية على صعيد العلاقات الدولية والتشبيك المحلي للقواعد الاجتماعية، خصوصا المسيحية منها بمكوناتها المتعددة، وهو ما عبّرت عنه أبرشية أربيل للكلدان، وأبرشية حدباب للسريان الكاثوليك، بإصدارهما بياناً مشتركاً مذيلاً بتوقيع رئيس الأساقفة لكلا الأبرشيتين، مخاطبين فيها الرئيس مسعود البارزاني “كُنتُم وما زلتُم القريب منا والمدُافع عنا في الأوقات العصيبة التي مرّت علينا”.. ورأى فيكم قداسة البابا “الأبَ لشعبِ كوردستان بكل أطيافه ومكوناته من دون تمييز”. والميزة الأخرى المتجلّية، عبر تغريدة الشكر من البابا إلى الإقليم وقيادته وشعبه على حفاوة الاستقبال. هي رسالة دعم وتأييد، كما طبيعة زيارة رأس العالم المسيحي الإقليم الدستوري، والانطلاق من حقيقة أن حماية مكوّنات الديانة المسيحية، وتمكينهم من العيش بسلام وأهميّة، إنما هي أحد روافد شرعية وأحقية تطوير العلاقة بين الإقليم والمركز وإمكاناته أن يُصبح بوضعية جديدة على صعيد طبيعة النظام السياسي، مع بغداد خصوصا، وإن أربيل ذات حمولة وإرث علماني.
ولم يغب عن بالِ قادة الإقليم تقديم هدايا ذات عُمقٍ سياسي ورسائل توجيهٍ تاريخي للبابا، خصوصا في قضية تحرير القوش ونينوى وكنائسها، وحقيقة المُحرِر ما بين البشمركة أو القوات الحكومية التي سعت أطراف عراقية صوب تحريف بوصلة الحقيقة، ونقل البطولة من أكتاف البشمركة إلى الجيش العراقي. هدايا الإقليم ورسائله إلى البابا تلقفها العالم كله، بما فيها تركيا التي هاجت واحتجّت بسبب طابع بريدي حمل صورة البابا، وفي خلفيتها خريطة كردستان الكبرى، وهي الرسالة التي أرادت النُخب الحاكمة في أربيل أن تقول عبرها قناعتين: لا تنازل عن نتائج الاستفتاء وإن طال الزمن، ولا تبدل في العمق الفكري القومي لهم. وحاجتهم لدعم البابا لهم.
ثمّة صراع عنيف على السلطة في بغداد بين الشيعة والشيعة من جهة، والشيعة والسنة من جهة تالية، وهؤلاء ضد الكُرد من جهة ثالثة
استقبال الإقليم والتركيبة السياسية والوضع العام للمسيحيين في كُردستان العراق أكّدت أن طبيعة الانقسام المجتمعي في العراق، والذي تفجّر أكثر بعد العام 2003، جاءت بها الأحزاب الدينية الشيعية والسنيّة في إطار صراعها على السلطة، فدفعت المسيحيين إلى البحث عن الملاذ الآمن، وأفصحت تركيبة الأمان والسلم الأهلي والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، بين الكُرد والسريان الأشوريين والعرب في كُردستان، عن أن ثمّة صراعاً عنيفاً على السلطة في بغداد بين الشيعة والشيعة من جهة، والشيعة والسنة من جهة تالية، وهؤلاء ضد الكُرد من جهة ثالثة. وهو صراع، بوصفه استحقاقا هوياتيا، عمّق صعوبة إنتاج كتلة وطنية من جهة، وأهمل وجود باقي الأديان والأقوام وحقوقها من جهة أخرى، ووضع المسيحيين والشبك والإيزيدين في خانة الصراع على وجودها بما يدعم صراع الهويّات المذهبية بين الأقطاب المتحكّمة ببغداد. في حين أثبتت التجارب، خلال العقد الأخير على أقل تقدير، إن إقليم كردستان العراق هو الجهة الأكثر أماناً واحتضاناً للمسيحيين، وتقديراً لهويّاتهم الفرعية، خصوصا في سياقات المواجهة بين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والمناطق والقرى الخاصة بالسريان الأشوريين والكلدان، والملاذ الآمن الوحيد لهم في كل العراق، لم يجدوا حضناً أدفأ من أربيل وأحيائهم السكنية في “عين كاوا”.
ثمّة مفارقة واضحة بدلالات سياسية وإنسانية عميقة، فقرى الآشوريين في الخابور وتل تمر في محافظة الحسكة تعرّضت للمجازر والتخريب، وعبث “داعش” بكنائسهم. وعلى الرغم من حجم الدماء التي سالت وامتزجت بين الكُرد والآشوريين في تحرير تلك المناطق، إلا أنه لا اهتمام ولا حتّى تغطية إعلامية خاصة بذلك الحدث. فارتبط الفعلُ بنوعية النظام السياسي القائم، ومدّى الاعتراف الدولي بالإقليم، وفقدان الإدارة الذاتية ومكونات شمال شرقها إلى نفاذ دستوري، أو جسرٍ للعبور إلى التشبيك الدولي.
العربي الجديد