روماف – رأي
إن الصراعات البينية والخطط المرسومة مسبقاً دخلت مرحلة جديدة، والقصف المتبادل بين كافة الأطراف المتصارعة على الساحة الدولية يعطي رؤية وانطباعاً آخر عكس الصراعات السابقة، كذلك استخدام القوى الفاعلة لأساليب جديدة في الحرب من خلال ملاحقة قيادات متنفذة لمحركي رقعة الشطرنج في ساحات الأدوات والأذرع الإقليمية والدولية، قد تكون بداية مرحلة جديدة ستسير عليها كافة الأطراف وفق رؤى وتصوُّرات عكس ما كانت في السابق.
على الرغم من تفاقم الأزمات في المنطقة يبدو أن أطرافاً فاعلة في النظام الدولي من أمريكا وأوروبا وروسيا غير قلقة على مصالحها من هذا الاسلوب، حيث تمارس سياسات متناقضة حتى مع مبادئ القانون الدولي، من ضرب بالطائرات ودعم للإرهابيين، وتشجيع للعنف المتبادل، ولا مبالاة باللاجئين في منطقة الشرق الأوسط والعالم نتيجة تلك الحروب المفتعلة لغايات سياسية واقتصادية على حساب حق تقرير مصير شعوب الشرق الأوسطية وأمنها واستقرارها.
هذا يعني أنه خلال تلك السياسات تضع منطقة الشرق الأوسط على صفيح حرب مستعرة تحرق الإنسان والحضارة، وتستنزف الجيوش والجماعات والأفكار والمجتمعات، وتُحوّلها إلى كيانات هشة لا تكاد تؤمن بأنها موجودة في عملية تفكيك وإضعاف ممنهجة بعد أن أصاب التمزق الداخلي هذه الدول، وبالطبع تبتعد هذه الديناميكيات الفوضوية عن الدول المستبدة والمتغطرسة مثل إيران وتركيا وبعض الأدوات والأذرع المرتبطة بها، وتحقق بالتالي هدوءًا وارتياحاً أمنياً واقتصادياً لها، رغم الحذر الذي يشوب ذلك بسبب ضعف السيطرة على مخرجات هذه السياسات المتعددة الأطراف والأبعاد والأهداف حتى بين الدول الكبرى.
تتجه تلك الأدوات إلى استخدام أساليب عنفية وممارسات لا أخلاقية ضد الشعوب التي ترزح في كنفها، لخلق حالة عدم الارتياح وفرض سياسة التجويع وكمّ الأفواه لدفعها تلك الشعوب إلى الرضوخ والاستسلام، ورفع راية عدم المقاومة، مما يؤدي به إلى اتخاذ أحد الأمرين لا ثالث لهما، إما تقبّل الواقع والرضوخ لسياستها وتنفيذ قراراتها أو لملمة جراحها والنزوح والهجرة إلى أماكن أكثر أماناً واستقراراً.
ضمن هذا الواقع يعيش السوريون بكافة مكوناتهم كورداً وعرباً وسرياناً وآشوراً ودروزاً وعلويين، واقعاً مريراً، لا يعلو فوق سماء السوريين سوى يد إرهاب النفوس وإهانة الكرامة وإحراق مستقبل الشباب وتدمير الأجيال، هكذا العيش على أرض سوريا، لا قانون سوى قانون الغاب، صوت إزيز الرصاص خارج من فوهة السلاح يطغى على المشهد العام.
اعتقد، أن هذه التحوُّلات في نهاية الأمر تؤدّي إلى إعادة تموضعات عميقة بين القوى السياسية والعسكرية الشرق أوسطية المحلية والإقليمية، ولتجعل من هذه الدول المتأزمة دولًا فاشلة خلال السنوات القادمة، من خلال سياسة التوازن بين الميليشيات والجماعات المسلحة والأحزاب والحركات السياسية، ولكي تضفي على أيّ شكلٍ من الإدارات صفة الديمقراطية، حيث أن كلَّ التحرُّكات الحالية للدول الكبرى والإقليمية تبرهن هذا الاعتقاد، والعديد من الأحداث التي تجري على الساحة يمكن تفسيره في ظل هذه التوقعات.
تتحرك السياسات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط بشكل واضح، ويظهر جلياً في تنامي المجموعات الإرهابية بدعم وتشجيع أو اختراق وتوظيف استخباري للدول الكبرى والإقليمية لم تستنفد أغراضها السياسية والأمنية لهذه الدول بعد، كما أن تأزيم الساحة السورية وتدمير بنيتها السياسية والتحتية، وتشريد ملايين السوريين منذ بداية الأزمة وحتى الآن في عملية تحوُّل ديمغرافي خطير عبر الترحيل القسري كما جرى خلال المقايضة التي حصلت بين دول استانا بترحيل إجباري لسكان الغوطة في ريف دمشق إلى المناطق الشمالية في منطقة عفرين وإجبار سكان منطقة عفرين من الكورد إلى النزوح خارج مكانهم، إما إلى تركيا أو إلى التشتت في الداخل السوري.
هذه العمليات تجري بخُطا مدروسة في كافة الساحات السورية ولا تزال تؤسس لسياسات ومصالح دول الكبرى وإقليمية محددة حتى تحقيق الغاية المراد الوصول إليه.
يبدو أن تحوُّلات سياسات الدول الكبرى والإقليمية وانتقالها من مرحلة إلى أخرى مختلفة عن الأولى، يشير وحسب اعتقادي تتجه إلى واقع غير مرسوم الأبعاد، ولا زال قيد التشكّل، وأن التفاعلات الإقليمية الإستراتيجية والتكتيكية ونوايا أمريكا والغرب هي التي ستحدد اتجاهاته ومراحله النهائية، لذلك إن التحولات والانعطافات في السياسات الدول الكبرى والإقليمية قد تتعارض في المصالح والأهداف وقد تتلاقى أحيانا أخرى.
وبالنظر إلى إعادة التموضعات التي تشهدها سياسات العديد من الدول الإقليمية والعالمية تجاه الأزمة السورية، والتفاعل المعقد بينها، وارتفاع أصوات الجماعات الإرهابية، واتّساع مشاهد الدمار والقتل واللجوء، تمثل فرصة أمام السوريين لتوجيه وتسديد اتجاهات التحوُّل نحو التعاون بدل الخصام، وتوفير الجهد والمال بدل استنزافه عبثاً في أعمال غير مجدية، والتلاحُم والوحدة ضمن الإطار السوري بدل التشتت والتفرقة، ولذلك فإن الجميع سواء ضمن النظام أو المعارضة أو بين الإدارات المسيطرة على المشهد السوري العام والمكونات التي ترزح تحت سطوتها مدعوة إلى مراجعة سياساتها نحو سياسة سورية جادة وبرؤية وطنية سورية حقيقية، لتقديم التنازلات والتضحيات اللازمة، والتسامي إلى مستوى المسؤولية التاريخية لتغيير واقع الوطن السوري بالتعاون والتفاهم والحوار والمصالحة بدل الخصام والاقتتال وإقصاء الآخر.