روماف – ثقافة
أحمد إسماعيل اسماعيل
(مجلة الجديد اللندنية عدد 72 يناير 2021 )
قصة
هل تشاهد مبارايات كرة القدم يا جاري؟
إذا كان جوابك بالإيجاب، فقل لي ما هو رأيك في لاعب يدفع بالكرة أمامه برشاقة وحماس، ويتوجه بها نحو مرمى الخصم بتصميم، متجاوزاً لاعبي الخصم بمهارة وحنكة، وما إن يصل إلى مرماهم، ويسدد ركلة نحوه، حتى تتفاجأ بالكرة وهي تنحرف بعيداً عن الهدف، يميناً أو شمالاً، أو حتى عالياً جداً، وكأن من سدد الكرة؛ ليس هو اللاعب الماهر نفسه!
قال جارنا الجديد ذلك بعد أن بثّ التلفاز خبراً عن تأجيل الموسم الكروي لهذه السنة بسبب انتشار وباء كورونا.
لم أعلق على حديثه الغريب، وعددت ذلك مجرد فزلكة، وإدعاء من ينطبق عليه المثل الكردي:”من ليس في الميدان، أسد مغوار”.
إنها المرة الثانية التي يزورني فيها هذا الجار، والذي لم يمض على سكنه في بنايتنا سوى أسبوعين، ولقد فعل ذلك بعد أن علم بأنني وإياه من مدينة واحدة، وأخذ يستذكر الأسواق في مدينتنا قامشلي، الثابتة منها والمتنقلة، وحديقتها العامة، وشارع العشاق.. وحاراتها، وكذلك نهر جقجق الذي يقسمها إلى نصفين مثل تفاحة، أو كان يفعل ذلك أيام زمان، ثم تباهى بأننا، نحن أبناء هذه المدينة، لدينا مناعة ضد كورونا ومورونا، ولسنا هلعين مثل الألمان، وهذا الفايروس لن يكون أشد فتكاً بنا من الحرب الدائرة الآن في بلدنا.
وحثنا أكثر من مرة على زيارتهم، غير آبهين بمخاوف الجيران، الألمان منهم واللاجئين مثلنا، وعدم الخشية من مبادرة أحد منهم والاتصال بالبوليس.
كنا قد تحدثنا قبلها في مواضيع شتى، عن حياتنا في هذا البلد، وعن حياة الناس في بلدنا ومعاناتهم المضاعفة بعد انتشار هذا الفايروس، والحجر الصحي وأثره على الفقراء، وعلى العمال المياومين، وارتفاع سعر الدولار الجنوني إلى ألفي ليرة سورية. وأبدى كلّ واحد منا حزنه وقلقه على أحوالهم، وقمنا بمقارنات بين رواتب الموظفين وصرف الدولار، وعرضنا أسعار بعض المواد الغذائية هناك، المرتفعة بجنون، ووجهنا بعض الشتائم إلى أمراء الحرب، في العاصمة والأطراف أيضاً، واختلفنا عمن يمكن أن يكون قد قام بتصنيع هذا الفايروس: أمريكا أم الصين؟
وانسحب النهار من النافذة، وحلَّ مكانه الليل الذي يسكن فيه كلّ شيء في هذه البلاد ويصمت، كأنه طقس مقدس، ولم ينهض هذا الضيف وينهي الزيارة. بدأت بالتململ، وشرعت أنظر مرات كثيرة في هاتفي الجوال، وأقرأ بعض الكتابات في “الفيسبوك” تارة، وأنظر بعيون فارغة في “الواتس آب” تارة أخرى، وكانت زوجتي تنتقل من غرفة إلى غرفة بشكل مفتعل، وتؤدي في كلّ مرة تظهر فيها أمام أحد الأبواب، حركات عصبية تدعوني فيها، ومن وراء ظهره، وبما يشبه الوعيد، أن أصمت وأكفّ عن الثرثرة معه، لعله يحس بالملل ويغادرنا.
وبالفعل، بدأت بممارسة سياسة طرد الضيف التقليدية، فالتزمت الصمت؛ أطبقت فمي وتركت المجال لجسدي كي يتحدث، نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار الصالون المرة تلو المرة بشكل مفتعل، مضيقاً بين عيني، ومتلاعباً في رسم شكل حاجبي، لأعقدهما تارة، وأرفعهما تارة أخرى، ثم لجأت إلى اصطناع التثاؤب؛ الرسالة الواضحة والصريحة للضيف الثقيل، بعد أن فشلت رسائلي وإشاراتي السابقة كلّها في إيصال ما أود قوله، فاغراً فمي على آخره، دون التقيد بالحجم المناسب لفتح الفم في حالة التثاؤب، ومدته، أو حتى نوعية الصوت المرافق للتثاؤب، أو تناسب عملية الشهيق والزفير، والتنسيق بينهما.
وباءت هذه الحركة أيضاً بالفشل، بل وأصبت بعدواها؛ وبقي هو بمنجى منها!
قال وهو يلتفت خلفه ليتأكد من خلوّ الصالون من أحد ما، وخاصة من زوجتي:
-ستسأل يا جاري العزيز ما علاقتي بالكرة واللاعب الذي يفشل في تسجيل هدف، وأنا في الحقيقة لا أملك شغفاً بهذه اللعب، بل وبكلّ ما يمت لعالم الكرة بصلة، أو حتى ببصلة.
لم أجب حتى بكلمة نعم، التزاماً مني بسياسة طرد الضيف، وبأوامر زوجتي الجالسة في المطبخ، والتي لها قوة سمع البومة، والمطبخ قريب من صالون الاستقبال، ومن غرفة نوم الأولاد، ولعل أية كلمة أتفوه بها؛ قد تكون بمثابة تشجيع له على متابعة الحديث، فيكون ذلك سبباً في إيقاظ الأولاد، وزيادة ضيق زوجتي، فألجمت لساني، ولكنه فعلها، وأكمل:
-لقد حدثت لي قصص كثيرة يا ابن البلد، وهي شبيهة بما يحدث لهذا اللاعب المسكين، ولو رويت لك بعضها فلن تنتهي حتى مطلع الفجر، ولكن هل تعرف ما هو المرمى؟
وكدت أفرغ ما يجول في داخلي من حنق وأقول: “لا يهمني من تقصد بالمرمى أو حتى بالحارس، نحن هنا في ألمانيا، في مدينة النظام فيها شريعة، ولسنا هناك، في مدينة الحبّ. والوقت الآن ليل، والزيارات في زمن كورونا ممنوعة. وللمنع هنا قواعد وضوابط، ولمخالفتها ضريبة وعقوبة”. ولكنني لم أفعل، فحانت منه التفاتة سريعة إلى الخلف أعقبها بهمسة:
-النساء.
-النساء؟!
لا أعرف كيف أفلتت مني هذه الكلمة، هل هو الفضول، أم أن الكلمة ذاتها: النساء، هي السبب.
وعلى الفور، جرَّ عجيزته من مكان جلوسه على الكنبة، واقترب مني أكثر، وأرسل كلامه نحوي بصوت ممطوط: “نعم نساء، وليست امرأة واحدة”؟
استيقظ في داخلي فضول نهم، ولكنني لم ألبّ حاجته، ولم أتجاوب مع نظرات جاري الخبيثة. الذي سرعان ما هبّ واقفاً، وقبل أن أنهض وأمدّ له يدي مودعاً، سأل عن مكان الحمام، واستأذن مني استخدامه، فأشرت إلى مكانه بوجه طفت عليه علامات الراحة، فتوجه نحوه مباشرة ودخله، وخرجت زوجتي من المطبخ مثل عاصفة هوجاء تسللت من نافذة مشرعة، وبدأت توجه لي العتاب والتوبيخ بكلمات حرصت على أن تخرج من بين أسنانها في صرير وهمس، ولم تصمت إلا عندما علا سعاله في الحمام، وتكرر صوت بصاقه.
فانعجن وجهها واكفهر، وأخذت تنقل نظرات القرف والهلع بيني وبين باب الحمام، وهي تغمغم بحنق:
-سنُصاب جميعنا بكورونا، سينقل لنا العدوى، وسيُصاب بها أولادنا!
غير أن هذا التوتر سرعان ما تبدل، وانقلب إلى ابتسامة مجاملة، بل وتمنت عليه المكوث، عندما فوجئت به يقف خلفها، ورددت العبارة ذاتها التي نكررها نحن اللاجئين بتباه أحمق “نحن لسنا مثل الألمان، ولن نكون، وطباعنا الشعبية الأصيلة لن تتغير” فطلب الشاي وهو يهز رأسه موافقاً بسرور، وأضاف ممازحاً وهو يعود إلى الجلوس في مكانه على الكنبة، بأن الشاي بالنسبة لأبناء مدينتنا قامشلي مسألة عشق، مثل البيرة للألمان.
وقبل أن تغادر الصالون وتتوجه نحو المطبخ، سألها عن أصلها وفصلها، وفي أية حارة من مدينتنا يسكن أهلها، وأثنى على أصلها بعد أن ذكرت له المعلومات التي سأل عنها، وأبدى إعجابه بعائلتها، وذكر اسم شخص معروف من عائلتها، كان صديقاً له أيام زمان، الأمر الذي جعل وجه زوجتي ينفرج عن ابتسامة عريضة، لا تخلو من تصنع، استغربت بعدها أن تملك زوجتي هذا الوجه المطاطي، وأنا جاهل به بعد ربع قرن من الزواج!
وعندما جاءت بالشاي المعطر بالقرفة، بوجه مبتسم ونظرات قلقة، شكرها وقال لي:
-اشكر ربك على نعمة الزوجة الطيبة البسيطة، والأصيلة، فالزوجة الصالحة هبة من الله.
قالها بصوت عال يصطنع الهمس، وذلك قبل أن تختفي زوجتي من الصالون، فأسرعت أنا أيضاً، في اللحظة نفسها، إلى رفع صوتي أكثر، شاكراً وراضياً على هذه النعمة، محاولاً النطق بها بنبرة خالية من التكلّف، وأنزلت في سري اللعنات على أصله وفصله، وعلى هذا النوع السمج من التملق الذي يلجأ إليه الضيف مع سيدة البيت.
ارتشف رشفتين من كأسه، وقال بعد أن مضمض الشاي في فمه بلذة:
– لا بدّ أنك في لهفة لمعرفة طبيعة العلاقة بين اللعب بالكرة والعلاقة مع النساء.
وأكمل بعد أن التفت خلفه التفاتة سريعة:
لن أروي لك قصصاً حدثت معي في البلد، فهي كثيرة، ولكن سأروي لك آخر قصة حدثت معي هنا، في ألمانيا، قبل أن أتمّ “لمّ شمل العائلة”، وتلتحق بي زوجتي والولدان، وذلك حين كنت وحيداً، إذ بقيت أكثر من سنتين وأنا أعزب، وهذا زمن ليس بالقليل. والمثل الذي يقول “أرمل دهر، ولا أعزب شهر” صحيح تماماً.
وكان عليَّ أن أتبع دورة كورس اللغة فور مغادرتي الكامب، وفي كورس اللغة، والذي يضم أناساً من شتى الملل: عرب وكرد وأفغان وفرس وترك ورومان.. وغيرهم.
قلت في نفسي، يبدو أن هذا السيد سيتحدث لي عن موضوع دورات اللغة الألمانية الذي مللته، فما من لقاء يضمنا نحن اللاجئين، إلا وكان هذا الموضوع هو السائد، موضوع ليس فيه سوى الشكوى والتأفف والخيبات، وعلاوة على ذلك؛ فلقد حل الليلّ، وأخشى أن ينتصف ولا ينتهي صاحبنا من حديثه.
برقت في رأسي فكرة أن أكتب لزوجتي على “الواتس آب”، أدعوها في رسالة قصيرة للقدوم إلى الصالون، ومشاركتنا الجلسة، فقد يُعجل وجودها معنا في إنهاء هذه الزيارة، غير أنني لم أفعل.
إذ كان قد بدأ للتوّ يتحدث عن علاقته بزميلة له في دورة اللغة؛ امرأة تعاني مثله قسوة الوحدة، وتنتظر زوجها في معاملة “لمّ الشمل” التي طالت، ولقد بدأ الأمر بالاستلطاف كما قال، وبالحديث عن الوطن، وشوق كلّ واحد منهما له، وعن جمال بحر اللاذقية، وعطر ياسمين الشام وتراتيل فيروز في صباحاتها، وطبعاً كان لطبيعة مدينة كلّ واحد منهما وناسها نصيب كبير من هذه الأحاديث.
وانتقل إلى الحديث عن مناوراته في ساحة هذا الملعب، الذكية والرشيقة: النظرات الولهى والمساعدات الصغيرة والتعليقات في الفيسبوك.. والكلمات المشفرة.
هذه المناورات غير غريبة عليّ، أعرفها جيداً، هي أشبه بعلاقة حميمية عن بعد، أو مقدمات نظرية على فعل ممارسة الجنس، والتي يمارسها الطرفان في اتفاق ضمني، غير معلن ومصرح به. ووجدتني أتابعه بشوق، منتظراً وصوله إلى المرمى. وقد وجدت نفسي في الملعب ذاته، حيث مكان عملي محاسباً لرواتب المعلمات الوكيلات في المجمع التربوي في مدينتي.
ماذا يعني أن يبلغ الرجل الخامسة والأربعين من عمره يا جاري العزيز؟ قال ذلك وأكمل: إنه شاب، وأنت أيضاً، رغم أنك تبدو أكبر مني بحوالي خمس سنوات، أو أكثر، إلا أنك مازلت شاباً، فأنت في أوربا، البلاد التي يُعد الرجل فيها شاباً حتى لو بلغ السبعين من العمر، وقد عاش مراحل عمره كلّها بانتظام، دون أن تداخل وتشابك، مثلما يحدث للإنسان في بلادنا.
ودون أن يترك لي فرصة لإضافة رأي، انتقل إلى الحديث عن العلاقة التي تطورت بينه وبين زميلته في كورس اللغة، ووصلت إلى المواعدة في إحدى الحداثق، ثم في الببت: بيته.
كان زميلي في قسم المحاسبة يذكر لي طريقة إيقاع المرأة في المصيدة، والمحددة بثلاث خطوات فقط، ساخراً مني ومن أحمد شوقي، طول صبرنا الفلكلوري، وهو يردد بتنغيم وسخرية قول أمير الشعراء:
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء.
ثم يضيف، في هذا الزمن، الحبّ هو: نظرة فلقاء، لا سلام ولا كلام، بل لقاء مبارزة بين جسدين: إنها المعركة الوحيدة التي ينتصر فيه طرفا الصراع.
مازلت أذكر تصرفات بعض المعلمات اللواتي كنّ يتقصدن إظهار نهودهن أثناء التوقيع على جدول استلام الراتب، وهن يعلمن أنني كنت أسترق النظر إلى ذلك الشق الذي يفصل بين حقين ممتلئين بإكسير السعادة. وكانت هي، تلك المعلمة بالذات، ذات القوام الممشوق والبشرة البيضاء المشوبة بالحمرة، تتصنع فعل ذلك دائماً، وأحياناً تنهي التوقيع الطويل بنظرة ماكرة، كمن يضبط طفلاً شقياً يحاول فعل شيء خبيث ببراءة.
كان جاري قد وصل إلى المرمى، وأصبح قاب قوسين من تسجيل الهدف، إنها في بيته وعليه القيام بواجب الضيافة: الشاي والقهوة والمته، ثم بعض المأكولات الخفيفة، وتناولا ذلك كلّه وهما يتجاذبان أطراف أحاديث شتى، وكان هو والزمن يسيران في اتجاهين متعاكسين، حتى فوجئ بها تنهض وتطلب بحنق، صمت قليلاً وهو يكتم ابتسامة سخرية وأسف صغيرة تطفو على وجهه، ثم قال بحسرة: لقد طلبت مني ألا أعاود الكرة معها. فهي أنثى، وأنا حمار.
لم أضحك، لقد كنت أشاهد زوجتي أثناء ذلك وهي تنتقل من المطبخ إلى الحمام، ومن غرفة الأولاد إلى غرفة نومنا، بحركات سريعة لا تخلو من تشنج، تلقي خلالها نظرات خاطفة عليّ وعلى جاري، ثم تختفي. ولكن ليس هذا هو سبب عدم ضحكي، بل هذا الاتهام بالذات، الذي وجهي لي ذات لقاء مع تلك المعلمة.
– نحن قوم نخسر أمام المرمى كلّ ما نكسبه في الميدان.
قلت لجاري، فنهض وهو يرجوني ضاحكاً، ألا أقلب المسألة إلى سياسة.
وعندما خرج، وأقفلت الباب خلفه، وكان الليل قد انتصف؛ تسللت إلى غرفة النوم، وشاهدت زوجتي متكورة على نفسها مثل قطة، وتكشيرة كبيرة قد انطبعت على وجهها، فشكرت الرب على هذه النهاية، وأطفأت النور.