ثمّة تهمّة غريبة توجّه إلى حزب العمّال الكردستاني، مفادها بأنّه انفصالي، يدعو إلى تشكيل دولة كردستان الكبرى. ولكثرة تكرار هذا التوصيف النّمطي في الإعلامين، العربي والغربي، أصبح من المسلّمات واليقينيّات الدامغة غير القابلة للتزحزح والنقاش.
الحقّ أنّ الحزب المذكور تأسّس على شعار تحرير كردستان الكبرى وتوحيدها، لكنّه تخلّى عن ذلك الطرح والمطلب، ليس فقط عقب اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان، منتصف فبراير/ شباط 1999، بل في أثناء المفاوضات غير المباشرة بين أنقرة والحزب، في مارس/ آذار 1993، والتي كان الرئيس العراقي السابق، جلال طالباني، وسيطًا فيها، وانتهت بمجزرة دمويّة ارتكبها مقاتلو الحزب بأمر من أوجلان، وراح ضحيّتها 33 جنديا تركيا، غير مسلّحين، عائدين من إجازاتهم، بالإضافة إلى ثلاثة مدنيين (معلمو مدارس).
المهمّ، أنّ “العمال الكردستاني” صار بالضدّ من الحقوق القوميّة الكرديّة، ويشيطن حقّ الكرد في أن يكون لهم دولة ولو على مساحة كيلو متر مرّبع! هذا ليس مجرّد رأي، بل نتيجة تستند إلى قراءة كتب أوجلان، أو ما يقال: إنّها كتبه، التي ألّفها في سجنه، وأصبحت “إنجيل” الحزب، والدستور الآيديولوجي لبرامج التدريب والتوجيه المعنوي العقائدي لمقاتليه، والرافعة السياسيّة لخطاب الحزب. مع ذلك، بات من شبه المستحيل إقناع الإعلامين، العربي والتركي، وربّما الغربي أيضًا؛ أنّ “العمّال الكردستاني” لم يعد حزبًا قوميًّا، بل لم يعد حركة تحرّر وطني أيضًا، لأنّه صار يطالب بمستوىً للحقوق، تطالب بها جمعيّات مجتمع مدني، لا حزب مسلّح. وعليه، مع حفاظه على نزوعه العلماني، اليساري، صار أوجلان وحزبه يروّجان الأتاتوركيّة، ويدعوان إلى دمج الكرد في الدولة، تحت مسمّيات طوباويّة وفذلكات آيديولوجيّة ــ سياسيّة، خلاصتها؛ “الأمّة الديمقراطيّة” و”الجمهوريّة الديمقراطيّة” اللتين ينظّر لهما أوجلان، منذ سنة 2000.
مناسبة هذا الكلام؛ الحديثُ عن الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة التي شهدتها تركيا أخيرا، والإشارة إلى دور “العمّال الكردستاني” ووزنه فيها. ذلك أن نتائجها التي أثبتت أنّ تركيا أعطت المنطقة درسًا في الديمقراطيّة، (ولو أنّها مشوبة ببعض المشكلات والمثالب). بالتوازي مع ذلك، فضحت تلك النتائج “العمّال الكردستاني” الذي يحمل السلاح، ضدّ هذه الديمقراطيّة، بحجّة تحقيق الجمهوريّة الديمقراطيّة والأمّة الديمقراطيّة! هذه الانتخابات، حشد لها الحزب القنديلي (نسبة إلى جبال قنديل، معقل الحزب) كلّ طاقاته الإعلاميّة والسياسيّة، وقنواته الإعلاميّة في أوروبا وسورية وتركيا، واستنفر علاقاته مع فلول اليسار التركي، بعجرهِ وبجرهِ، إلاّ أنّ “الكردستاني” فشل في تحقيق ما حققه في الانتخابات السابقة (24/6/2018)، حين حصل حزب الشعوب الديمقراطي ـ “HDP” (الواجهة الرسميّة للعمّال الكردستاني)، على 11.70%، و5876302 صوت، وفاز بـ67 مقعدًا برلمانيًّا. بينما حقّق في الانتخابات الأخيرة 8.81%، وحصل على 4791441 صوتًا، وفاز بـ61 مقعدًا. وبحسبةٍ بسيطة، نرى مستوى تراجع شعبيّة “العمّال الكردستاني”، وكيف أن تحالفه مع فلول اليسار العفن، من جهة، ومع حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي القومي التركي، من جهة أخرى، كان وراء ذلك الانحدار والتراجع. وكأنّ الناخب الكردي، وجّه صفعة قويّة لخيارات الكردستاني، الفاشلة.
إذا استمرّ “العمّال الكردستاني” على عناد تبنّي خيار العنف المجّاني، من دون مبرّر، فهذا يعني أنّ بندقيّته مشبوهة
مارس حزب العمال الكردستاني الذي يدعو إلى الأمّة الديمقراطيّة والجمهوريّة الديمقراطيّة أعتى درجات (ومستويات) الخطاب التحريضي السياسي الفاشي ضدّ العدالة والتنمية، كمَن يسدّ الأبواب أمام أيّ خيار أو احتمال مستقبلي في التعاون والتنسيق، بما تقتضيه مصالح الكرد في تركيا. وجعل من شعار حملة حزب الخضر اليساري الانتخابيّة؛ “محاسبة حكومة أردوغان”. ربّما نجح الكردستاني في إضعاف شعبيّة أردوغان وحزبه في المناطق الكرديّة، لكنه، استجلب فاشيّة حزب الشعب الجمهوري إلى تلك المناطق، وبل عزّزها. فحصل مرشّحه كلجدار أوغلو على الدعم والتفويض الشعبي في المناطق الكرديّة، بينما لم يدعُ كلجدار أوغلو حزبه؛ الشعب الجمهوري، إلى دعم تحالف الخضر اليساري، في المحافظات التي يعتبرها الأوّل؛ معاقله التقليديّة، كمحافظة إزمير. ليس هذا وحسب، بل يمكن اعتبار النتائج التي حققها العمّال الكردستاني، عبر حزب الخضر اليساري، في انتخابات 14 مايو/ أيار الجاري فشلاً ذريعًا، إذا ما قارنّاها بما حققه حزب العمّال الكردستاني في انتخابات 7 يونيو/ حزيران 2015، فقد حقق وقتذاك 13.12%، وحصل على 6057506 أصوات، وأرسل 80 نائبًا إلى البرلمان التركي.
واضح أنّ الأرقام السابقة تشير إلى انحدار الخطّ البياني لحزب العمّال الكردستاني، وأنّه كلّما خفّض من منسوب خطابه الكردي وتنازل عن المطالب الحقوق الكرديّة العادلة، ورفع من خطابه التركي، وتحديدًا الأتاتوركي، سحب الكرد منه التفويض الشعبي، الذي كثيرا ما يستعرضه ويتفاخر به أمام منتقديه، على أنّه حزب جماهيري. والمعروفُ عن الحزب، نتيجة الضخّ الإعلامي، والتكرار من دون تدقيق وتمحيص، أنّه قومي، انفصالي، كما أسلفنا. لكن، بالعودة إلى كتب أوجلان الصادرة أخيرا، وأدبيات حزبه منذ 2000، سيكتشف المتابع مستويات الخداع والتضليل، لجهة الصورة الثوريّة القوميّة المضللة، المصدّرة عن هذا الحزب، الذي ما زال يحمل البنادق في وجه الديمقراطيّة التي سمحت له بإيصال 80 عضوا إلى البرلمان التركي سنة 2015، و61 عضوا في الانتخابات أخيرا!
مارس حزب العمّال الكردستاني الذي يدعو إلى الأمّة الديمقراطيّة والجمهوريّة الديمقراطيّة أعتى درجات الخطاب التحريضي السياسي الفاشي ضد “العدالة والتنمية”
أمّا بخصوص المدائح التي يكيلها أوجلان لمصطفى كمال أتاتورك، عقب اعتقاله وسجنه في جزيرة إيمرالي، فحدّث ولا حرج. تلك المدائح الأوجلانيّة لأتاتورك لا يتجاوزها في مستويات السخف والسطحيّة شيء إلاّ مدائح أوجلان نفسه لحافظ الأسد، حين كان في دمشق، من 1979 ولغاية 10 أكتوبر/ تشرين الأول 1998. وبما يقدّمه من تنظيرات، في الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة، لا يختلف أوجلان كثيرًا عن الوعود التي كان يقطعها مصطفى كمال أتاتورك للأكراد، إبّان انشقاقه عن السلطنة وتشكيله حكومة في أنقرة، تناهض وتعارض حكومة “الباب العالي” في إسطنبول. وحين أطاح مصطفى كمال أتاتورك الدولة العثمانيّة نهائيًّا، لم يتنصّل من وعودهِ وحسب، بل ارتكب في حقّ الكرد المجازر سنتي 1925 و1930. وكان أبشعها مجزرة ديرسم سنة 1938، حيث قصف المدينة بالطائرات، وقتل ما يزيد على 12 ألف مدني، كردي علوي، وقتذاك، حسب الإحصائيّات الرسميّة. تلك المجزرة التي يعتبر كمال كلجدار أوغلو أحد ضحاياها، حيث تمّ ترحيل عشرات الألوف من أبناء محافظة ديرسم (تونجلي) وتوزعهم وسط الأناضول، ومن أولئك المهجّرين قسرًا، والد وجد، كلجدار أوغلو. تلك المجزرة الرهيبة التي اعتذر عنها الرّئيس التركي رجب طيب أردوغان في 22/11/2011، ولم يعتذر عنها زعيم المعارضة التركيّة، لأنّ حزبه بزعامة كمال أتاتورك، ارتكبها بحقّ العلويين الكرد، الذين ينتمي إليهم كلجدار أوغلو!
الحال أنّه مثلما خدع كمال أتاتورك الكرد من 1920-1923، كذلك خدع كمال كلجدار أوغلو الكرد في الانتخابات أخيرا. ذلك أن برنامجه الانتخابي خلا من أيّة إشارة واضحة وصريحة لحلّ القضيّة الكرديّة في تركيا. زد على هذا وذاك، حصل كلجدار أوغلو على تفويض شعبي في المناطق الكرديّة، بأمر من “الكردستاني”، وصل إلى ما يزيد على 70% في مدينة دياربكر (آمد) الكرديّة، في حين أنّ حزب الخضر اليساري (واجهة الكردستاني) حصل في مدينة إزمير، معقل حزب الشعب الجمهوري، على نحو 7.5%!
على حزب العمّال الكردستاني إلقاء سلاحه، لأنّ ما حققهُ عبر صناديق الاقتراع، من دون إراقة قطرة دم، يتجاوز بسنوات ضوئيّة ما حققه عبر صناديق البارود، وممارسة العنف والترهيب
ربّما قلّة من المتابعين للمشهد الكردي في تركيا يعلمون أن حزب الشعوب الديمقراطي الذي تأسّس سنة 2012 هو أصلاً ائتلافٌ يضمّ الموالين للعمّال الكردستاني، (وهم الأغلبيّة)، بالإضافة إلى مجموعات يساريّة علويّة، وجماعات مؤيدة للبيئة، وأبناء مجتمع الميم وأنصاره، ومناهضي العولمة. أُضيف إليهم شخصيّات يساريّة وقوميّة تركيّة أخرى، كي يتّسع الائتلاف، ويتحوّل إلى حزب الخضر اليساري. هذا الائتلاف دخل الانتخابات الأخيرة بقائمة ضمّت أسماء كتّاب قوميين أتراك، أرسلهم الكردستاني إلى البرلمان التركي، بأصوات الأكراد، بوصفهم يمثّلون المدن الكرديّة. على سبيل الذكر لا الحصر؛ الكاتب القومي ـ اليساري حسن جمال، حفيد جمال باشا السّفاح، أحد المسؤولين عن إبادة العرب والأرمن والسريان إبّان الحرب العالميّة الأولى. ومن المفارقات السياسيّة الغبيّة السخيفة التي اقترفها “العمّال الكردستاني” أنّه جعل شخصيّة يساريّة تركيّة، تنتمي إلى مجتمع الميم، مرشحًّا وبرلمانيًا عن محافظة موش الكرديّة المحافظة!
حاصل القول: يمكن لحزب العمّال الكردستاني تلافي الفضائح والكوارث التي مُني بها في الانتخابات التركية أخيرا، بطريقتين إسعافيتين، لا ثالث لهما: سحب التفويض الشعبي من كلجدار أوغلو، ومنحها لأردوغان، ضمن صفقة سياسيّة شاملة، أو الوقوف على الحياد. والحياد هنا، دعمٌ لأردوغان. وذلك عملاً بالمبدأ الذي صدّع “العمّال الكردستاني” رؤوسنا به، سواء في سورية أو تركيا، على أنّ الحزب، وأفرعه، تتبنّى الخيار الثالث وتمثله؛ “لا مع النظام، لا مع المعارضة”. لكن، واقع الحال في سورية أكّد ووثّق أنّ الحزب الأوجلاني كان مع النظامين السوري والإيراني، ضدّ معارضتيهما. بينما في تركيا، وقف الحزب مع المعارضة ضدّ السلطة. بالرغم من أنّ المكاسب التي حقّقها الحزب في تركيا، كانت على زمن حكومات “العدالة والتنمية”، وليس على زمن الحكومات التي سبقتها.
زد على هذا وذاك ضرورة إلقاء “العمّال الكردستاني” سلاحه. لأنّ ما حققهُ عبر صناديق الاقتراع، من دون إراقة قطرة دم، يتجاوز بسنوات ضوئيّة ما حققه عبر صناديق البارود، وممارسة العنف والترهيب. وإذا استمرّ الحزب على عناد تبنّي خيار العنف المجّاني، من دون مبرر، فهذا يعني أنّ بندقيّته مشبوهة، وأقلّ ما يقال فيها إنّها إحدى أدوات الدولة العميقة في تركيا.