روماف – ثقافة
حقيقة الثقافة تكمن في عمق الأحاسيس ورهافة الأخلاق، لا في تراكم المعارف والمفاهيم فحسب. ليست الثقافة مجرد شهادة تُعلق على الحائط أو زخرفة تُضاف إلى الذات، بل هي إيقاع الروح التي تحترم جراح الآخرين وتعي شقاءهم، دون أن ترتدي قناع الغطرسة أو تتوشح بستار التعالي.
تتجلى الثقافة الحقيقية في صقل النفس وتهذيب السلوك عبر التفاعل الوجداني مع النصوص والمعاني.
أن تتحول كل كلمة مقروءة إلى فعل معاش، وأن يصبح كل سطر مثقل بالحكمة معيارًا للعمل والتعامل.
على الشخص المثقف حقا أن لا يكون مجرد خزانة معرفة مغلقة، بل يجسد معيناً للعطاء ينبثق منه ما ينير طريق الآخرين ويدعم رفعة الإنسانية.
إن المثقف الواعي هو الذي يؤمن بأن معيار الثقافة ليس في عدد الصفحات المقروءة ولا في حصر الألقاب ورص الشهادات. إنما في المساهمة الايجابية في نسيج المجتمع، في الإلهام والابتكار، وفي كل جهد يبذل ليضفي على الأرض طابعًا أكثر إشراقًا ورحابة.
المثقف الحق يرى في كل تجربة حياتية فرصة لتعلم درس جديد يظل محفورًا في ذاكرة الجسد والروح. ينبذ الغرور الذي يتسلل إلى النفس مستغلاً مساحات العلم ويسعى لتقليل شأن الآخرين.
إن شهادة الحياة التي يحصل عليها الإنسان من خلال السعي والإخفاق والنجاح، هي البوصلة التي توجه سفينة الثقافة نحو شواطئ الفهم والتعاطف.
المثقف المتمرس في مدرسة الوجود، يدرك أن أي تعليم مشبع بالجدوى هو ذاك الذي يرفع من قيمة الإنسان ويسهم في بناء جسر العبور نحو عالم تسوده المعرفة النافعة، والاحترام المتبادل، والغاية السامية للارتقاء الإنساني.
وكم من إنسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكنه بحنكته وتجارب حياته الثرية، أثرى المجتمع بحكمة لا تُستخلص من الكتب، وبإرادة صلبة تعلو على الأبجديات والنصوص.
هذا الإنسان البسيط بمظهره، العميق بمضمونه، يحمل في ثنايا كيانه دروسًا فذة في الصبر والصمود والنبل، دروسًا تنير للأجيال طريق العمل الدؤوب والثقة بالنفس والأمل.
تلك هي بصمة الإنسان الحق الذي يؤدي دوره في الوجود بصدق وعفوية، محولًا كل لحظة عطاءً إلى نقش خالد في جدار الزمان…
الأمية هنا لا تعني الجهل، بل ربما تكون نافذة يطل منها الفرد على معانٍ أعمق، تتخطى حدود اللغة والمنطق الدراسي، نحو فهم أرقى للعلاقات الإنسانية ودور الفرد داخل مجتمعه.
إن هؤلاء الأفراد، وإن كانوا لا يملكون القدرة على القراءة أو الكتابة، إلا أنهم يعلمون كيف يخطون، بسيرتهم وأفعالهم، خطوطًا واضحة على لوح التاريخ والواقع، مؤكدين بذلك أن الثقافة والتأثير ليستا قاصرتين على المتعلمين الحاصلين على شهاداتهم، بل هي إنجاز يمتد ليشمل كل من يستطيع أن يضيء شمعة في الظلمات، ويبني جسرًا فوق المستحيلات…