ماذا لو كان غزو العقول ممكناً.
ليس مطلوباً من القارئ أن يطرق أبواب الفلسفة في كل مرة يفتح فيها كتاباً، _أحياناً، يحتاج العقل إلى هدنة، إلى خيال يروّح عنه دون أن يغيب تماماً عن السؤال العميق. من هنا، جاءت قراءتي لرواية (الكائن) لفريدريك براون. لم أكن أعلم عن مضمونها شيئًا حين وقعت عيناي على عنوانها، لكن شيئاً خفياً وراء العنوان دفعني للبحث داخل صفحاته .
( الكائن) أوحى لي بأنه ليس كائناً عادياً ، ولا حتى بشرياً كما استنتجت من العنوان في بادئ الأمر.
مع الصفحات الأولى، تسرب إليّ طيف من ذكريات الطفولة؛ الخيال العلمي الذي كان ذات يوم امتدادً
لحكايات الليل و الأساطير.
( في قلب الرواية ومعناها)
الرواية تحكي عن كائن قادم من عالم آخر، لا يغزو الأرض بأسلحة أو مركبات، بل يتسلل إلى الأذهان، يتحكم بالبشر عبر جهاز عقلي غامض. هذا الشكل من الغزو — غير محسوس، وغير مرئي — يجعل من الرواية تأملاً خفياً في فقدان الذات. الجسد هنا لا قيمة له ما دام العقل مستلباً، بمعنى آخر مسلوب الإرادة يأتمر بأوامر الكائن، وينفّذ ما يريد. وهنا يكون الخير والشر، مختلفاً في معناه الذي نعرفه. إذ أننا لا نتحكم بأفعالنا و اقوالنا.
من خلال هذا الكائن، لا يطرح براون فكرة الخطر الخارجي فحسب، بل يصور كيف يمكن للـ”آخر” أن يعيش في داخلنا. إنه استعمار داخلي، أشبه بما تفعله الإيديولوجيات أو وسائل الإعلام أو حتى رغباتنا المكبوتة حين تتحكم بنا من دون وعي.
رغم بساطة الأسلوب وسلاسة السرد، لا يمكن تجاهل العمق الكامن تحت هذا الغلاف الخيالي. “الكائن” ليست فقط رواية عن مخلوق فضائي، بل عن الإنسان نفسه حين يُجرد من اختياره، كأنه روبوت مبرمج وفق نظام معين، غزو العقل لا يحتاج إلى كائن خارجي كما في مضمون الرواية، مانراه اليوم من الإعلانات، والأفكار المتطرفة من قبل جماعات مسلحة، أو أفكار منافية للفطرة السليمة المجّملة بعناوين حضارية هي أشد فتكاً بالعقل، وخاصة للأجيال القادمة في ضوء هذا الانفجار الهائل للشبكة العنكبوتية، وتفشي الجهل والحروب في شتى بقاع الأرض.
( القراءة الخفيفة الظل كما أحب تسميتها)
نجيب محفوظ كان يقرأ أجاثا كريستي. والعقاد، رغم شدته العقلية، خصص في مكتبته دولاباً لكتب الحشرات. لماذا؟ لأن القراءة ليست فرضاً نخبوياً، بل مساحة حرة للتجول بين العوالم. من حق القارئ أن يقرأ رواية خفيفة، لكن أيضاً من حق الرواية الخفيفة أن تُدهشنا وتطرح الأسئلة الصعبة. “الكائن” تفعل هذا تماماً ، دون أن تُثقل على القارئ أو تتكلف في الطرح.
ختاماً، هناك مقولة سمعتها ذات مرة تقول، لا يخلو أي كتاب من فائدة مهما بلغ من الرداءة.