الكرد والنار بين الواقع والاسطورة

روماف – رأي

عندما تلمع في الذهن ظاهرة الاسطورة، فإن الشك يقف سوراً، وعدم اليقين يكون حاضراً، فالاسطورة هي شكل من أشكال الأدب الرفيع، وهي قصة تقليدية ثابتة نسبياً مصاغة في قالب شعري يساعد على ترتيلها وتداولها شفاهةً بين الأجيال، وهي مقدسة ولا تشير إلى زمن محدد بل إلى حقيقة أزلية من خلال حدث جرى، وهي ذات موضوعات شمولية كبرى مثل: الخلق والتكوين وأصول الأشياء والموت والعالم الآخر ومحورها الآلهة وأنصاف الآلهة، وللإنسان فيها دور مكمل لا رئيسي وهي بعد ذلك لا مؤلف لها بل هي نتاج خيال جمعي (مجتمعي) أي هي ظاهرة جمعية تعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها وقد آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الاسطورة أيضاً، بنظامٍ ديني معين وتتشابك مع معتقداته وطقوسه المؤسسة له، وإذا ما انهار النظام الديني الذي ترتبط به فإنها تفقد كل مقوماتها كإسطورة وتتحول إلى حكاية دنيوية وتنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الأدبية الشبيهة بالأسطورة مثل: الحكاية الخرافية، القصة البطولة  والحكاية الشعبية، فالاسطورة تعتبر أحد أنواع من الفولكلور يتكوين من قصص تلعب دوراً جوهرياً في المجتمع مثل: حكايات التكوين أو أساطير البدء بدء الخليقة والأكوان، فهي تتضمن شخصيات ما ورائية أو خارقة أيضاً.

فالأساطير تتعامل مع الآلهة وجرت العادة ألّا يكون لها منطلق تاريخي، وزمنها هو اللازمن أو الماضي الخيالي الذي يختلف عمّا تألفه في الحاضر وتحظى الأساطير غالباً بتأييد الحكام والكهنة أو الكاهنات وترتبط إرتباطاً وثيقاً بالدين أو الروحانية، وتعمد العديد من المجتمعات إلى جمع أساطيرها وحكاياتها البطولية أو الخرافية وتاريخها معاً، معتبرين أن هذه الأساطير والحكايات البطولية هي توثيقات وروايات حقيقية لماضيهم السحيق وخصوصاً (أساطير الخلق) التي تتخذ من الزمن البدائي مسرحاً لحدوثها حيث لم يكن العالم قد اتخذ شكله اللاحق بعد.

بينما تفسر أساطير أخرى كيف أُنشئت وقُدسّت عادات المجتمع ومؤسساته ومحرماته.

و”علم الأساطير أو علم دراسة الأساطير” أو ما يشير إلى مصطلح (الميثيولوجيا) إنما هو فرع من فروع المعرفة وهو يعني بدراسته الأساطير وتفسيرها، وكذلك يشير إلى مجموعة من القصص التقليدية أو المقدسة أو التي تتحدث عن الآلهة، وهي في جميع الأحوال لا تسيء إلى الآلهة أو الدين، لأن كلمة أساطير ذكرت في الكتاب المقدس (القرآن) وتعبر عن القصص القديمة للأولين، ولأسباب عملية، وتجنباً للتقليل من قيمة أي تقليد ولأن الثقافات تنظر لبعضها البعض بصورة مختلفة فإن تحديد سرد ما بإعتباره إسطورة يمكن أن يكون سبباً في إثارة جدل كبير، حيث يرى العديد من أتباع الديانات أن قصصهم الدينية صحيحة، وبالتالي يعترضون على وصف تلك القصص بأنها أساطير، لكنهم يرون أنّ قصص الديانات الأخرى ما هي إلا اسطورة ولتجنب وضع إيحاءات إزدراء على أي سرد مقدسٍ يستخدم علماء الأساطير وبدلاً من “الاسطورة” مصطلحات مختلفة مثل: “التاريخ المقدس” أو” القصة المقدسة” أو ببساطة “التاريخ”.

فالاسطورة هي نتاج لتركيبات العقل المتناغمة وهي جماع التفكير والتعبير عن الإنسان في مراحله البدائية وإنها عمل جماعي ينبثق عن الغريزة القومية وتعبير عن الشعور الجماعي، وهي الوعاء الذي وضع فيه الإنسان خلاصة فكره، والوسيلة التي عبر بها عن الأنشطة المختلفة التي مارسها بما فيها النشاط السياسي والديني والاقتصادي، أو هي الوسيلة التي حاول عن طريقها إضفاء طابع فكري عن تجربته وأن يفلسف حقائق الحياة العادية.

وتعرض الاسطورة أحداثاً تتناقض تماماْ مع قوانين الطبيعة والمجتمع بعض الأحيان وتدخل في السرد الاسطوري شخصيات وأحداث خارج الإطار الزمكاني وهنا يتجسد (الإله) وهو (الله) أو ( الخالق مزوس) وهو الواحد الأحد الكائن في ما وراء (عالم الزمكان)، ليتجسد على هيئة إله أرضي حيث عالم الزمكان وهنا وحسب المعتقدات الدينية الكردية القديمة كالميترائية، بإعتبارها ديانة كردية قديمة تعود الى ماقبل عصر القوميات والأثينات في بلاد الكرد كردستان ومروراً ببلاد فارس وأرمينية ووصولاً للبحر المتوسط واليونان، وبإعتبار المعتقدات الكردية القديمة جامعة لكل تلك القبائل والتجمعات السكانية آنذلك -قبل عصر القوميات- قد ساهمت في تطور وعي المجتمعات وأنسنتها وتهيئتها للولوج في عالم التحضر والتمدن وسن الشرائع والقوانين الضابطة للمجتمعات وبما يكفل الحقوق ويردع المعتدين، فالكرد أو سكان كردستان أسسوا مجتمعات مدنية، حضارية (السومريين والميتانيين والميديين والساسانيين) أغنت العالم فيما بعد وأثرتها بالعلوم والمعارف ومهدت فيما بعد الإنسان نحو الرقي والتمدن… وأما بشأن (عيد النوروز) فقد ارتبط منذ الأزل بالطبيعة حيث أن النوروز هي بداية إنتاش بذرة الحياة للنبات وللحيوان على السواء وكذلك بدء ذوبان الثلوج فوق قمم جبال زاگروس وجودي وآرارات… 

وهي موعد تجدد الحياة وتكاثر الحيوان وإنبات الزرع، و”نوروز” هي رمز للصراع الأزلي ما بين قوى الظلام والخير وهناك لغط ربما مقصود من اتباع الديانات الأخرى كما أوردت في متن مقالتي هذه بإعتبار أن المعتقدات الكردية القديمة هي طقوس إلحاد وزندقة حسب اعتقادهم!!

وللأسف لقد حوربت المعتقدات الدينية الكردية وبعنف فكرياً وبالقوة خلال العصور التاريخية، ولأسباب هيمنة الفكر وتسويق الآراء والأفكار والأساطير من باقي الأمم والقوميات في فترات بدء ظهور القومية. حتى أن بعض الغلاة والشوفينيين من الأقوام المجاورة للكرد وبشكل متعمد وبعيداً عن الحقائق شوهوا تاريخ الكرد فتارةً يصفونهم (بأبناء الجن!) وتارةً بقطاع الطرق وممن استنجدوا بالجبال هرباً من العدالة!!

ولقد ترسخت في أذهان الأجيال التي أشبعت بروح الإستعلاء القومي أو الديني أو المناطقي ظاهرة (معاداة الكرد) وهي ظاهرة تستدعي الوقوف على تجلياتها ومآلاتها ومنها تزايد الشرخ المجتمعي والاستقطاب الديني والمذهبي والقومي ومما لا شك فيه أن تيار الإسلام السياسي (السني والشيعي) لا يزال ومن أجل إستيلائه على حكم البلدان بالقوة يعمل على تنظيم وتأسيس وإدارة الجماعات والحركات المسلحة ضد الكرد وسائر القوميات غير المسلمة ومن تلك التنظيمات التي تسعى لإحياء (الخلافة) تنظيم (داعش)الإرهابي في كل من العراق و سوريا و الهدف غير المعلن هي محاربة الوجود القومي الكردي، فداعش وسائر الحركات الإسلامية المتطرفة تحارب الكرد وتصفهم بالمرتدين وهي في ذلك تستهدف الأرض والحجر وثقافة وتراث الكرد كالمجزرة البشعة بحق أهالي جنديرس في ليلة النوروز، وعلى الصعيد الديني من خلال إصدار فتاوى تحرم أعياد النوروز وباقي الأعياد الأخرى مثل (چوارشەممە سۆر، مێهرجان) … وتصف الديانات الكردية ک(الايزيدية واليارسانية) بالبدع والإلحاد مع العلم أن الزردشتية هي صاحبة (الوصايا العشر) و (توحيد الآلهة بإله الخير الذي لا بدّ أن ينتصر في النهاية على قوى الظلام والشر) وما التتريك والتعريب والتفريس إلا إيديولوجيات متطرفة تندرج أعمالها ضمن (جرائم الإبادة) وتستدعي وقفة جادة من الأمم المتحدة والتشهير بها وبرموزها.

و كما أسلفت في متن المقال: فأن الأساطير والحكايات الشعبية لكل الشعوب عامةً، لم تلد من فراغ وأن هناك علاقة متداخلة بين الاسطورة والحياة الاجتماعية والفكرية والروحية لشعب ما، وغالباً ما تكون هذه العلاقة متشابكة ليس بمقدور أحد إنكارها أو التقليل من أهميتها، فالحكايات الشعبية والأساطير تعكس أحياناً حقائق تاريخية لشعب ما، ويعبر بصورة ما عن طبائع وصفات مميزة ومختلفة لشعب ما عن الخصائص القومية والروحية للشعوب الأخرى وأن محاولة بعض الشوفينيين المحتلين بخصوص تشويه الشعب الكردي وتاريخه وتراثه الثقافي والفكري ووصفهم الكرد بأنهم (عبدة النار)، متجاهلين عمداً ما للنار من أهمية مفصلية في تمايز الحضارات، فاكتشاف النار قد ساهم في تحول الإنسان البدائي إلى المدنية من خلال نزوله من الكهوف والمغاور وفوق الأشجار نحو بطون الأودية وعلى ضفاف الأنهار الكبرى وإقامة المستوطنات الأولى للبشرية ولذلك وعبر التاريخ الطويل نجد أن النار هو عنصر نبيل في أديان الشرق ومنها بخاصة الديانات الكردية القديمة، لما للنار كما ذكرت من أهمية فالأساطير التي تتحدث عن مكانة وقدسية النار في المعتقدات الكردية القديمة وبخاصة تلك المتعلقة برأس السنة الكردية (النوروز) لم تأتِ من فراغ وإنما هناك من ينسب إكتشاف النار للكرد كأول إختراع وتطور للبشرية، وظل النار مشتعلة لآلاف السنين فوق قمة جبل (سيپاني خلاتي) وسميت ب(خلاتي) لأن النار كانت هبة من(الله) للكرد في الميثولوجية الكردية، وهنا سأقوم بتدوين هذه الحكاية الشفهية أو الاسطورة والتي تتحدث عن علاقة الكرد بالنار حيث تقول الاسطورة وباختصار ما يلي: ((يقال قبل أن يخلق الله الكون كانت كل العناصر والكائنات متداخلة ببعضها البعض، لم تكن هناك وجود لكائن ما بصورة مستقلة او منفصلة، وكان يطلق عليه “كاوس” اي قبل تكوين الكون، وكاوس هو بذرة الكون والحياة والكائنات، وانفصلت عناصر كاوس بعد صراع مرير بين مكوناته، انفصل الأرض عن السماء، التراب عن الماء، الحرارة عن البرودة…الخ.

ثم خلق الخالق “مزوس” أو “الله”، الكون، الكائنات والحيوانات، جعل الطيور في السماء والزواحف على اليابسة والاسماك في المحيطات والبحار، وفيما بعد ارسل الله “مزوس” وراء معاونه “متيوس” وطلب منه خلق الإنسان من بذرة الارض “التراب والماء” وهو قام بخلق الإنسان فخلق آدم وحواء وتزايد اعداد البشر، وكان لديهم نفس اللغة والعرق، عاشوا لعصور حياة رتيبة، قبل ان يقرر الله في توزيعهم الى قبائل وشعوب وأعراق مختلفة، وارسل الله وراء “ماثيو” وأمره بتشكيل اقوام مختلفة وماثيو اوكل امر تشكيل القوميات الى آلهتهم، الإله انكلو متيوس خلق قوم سماه انكليز، فرانسوماتيوس خلق قوم باسم فرنسي، ايطاليمتيوس خلق قوم إيطالي … وهكذا تم خلق كل القوميات، عرب متيوس (عرب)، فارس متيوس (فرس) ولكن لم يظهر بعد القومية الكردية حيث كان كوردومتيوس غارقا في نومه، ثم جاء ماثيو لخدمة الرب وقال إن المهمة قد أنجزت، وقال الله له استرح اليوم وتعال غدًا ليمنح لكل قوم هدية مميزة هي السمة المميزة لتلك القوم، لقد أعطى الله لكل قوم قطعة من جسده، اعطي لبعضهم القوة، وبعضهم الاخر العقل وهكذا ومن ثم طلب من كل قوم ان يحافظ على عطيته وقال لهم احتفظوا بما أعطيت لكم، فهذا يجعلكم اقواما، في اليوم التالي حضر كوردوميتوس بعدما قام بتشكيل أمته وطالب الله بان يمنح شعبه هدية وقال له اين نصيب شعبي؟

رد مزوس عليه قائلا؛ “تأخرت، كنت نائم، لم يبق لك شيء”، قال كوردمتيوس: (ولمن النار، اريد ان تمنح النار لشعبي).

أبعده مزوس عن الباب وقال له: (النار ليس نصيب أحد، وانك خلقت قومك من دون أمري ولهذا لن امنحهم اي شيء)، وأدرك مزوس أن الكردي قد اتخذ العديد من الصفات من الاقوام الاخرى، كالقوة والشجاعة والحكمة والجمال والأدب وبالنار سوف تكتمل جميع صفاتهم وسيصبحون ندا له.

خرج كوردومتيوس من عند الله (مزوس) غاضبا واقسم على انه سوف يمنح قومه النار، انتظر كوردوميتوس حتى حلول الظلام، ثم ذهب خلسة الى كاوا متيوس (كاوايي هسنكار)، الذي كان منهمكا في صنع سيف (مزوس) وجمع في جعبته بعض شظايا النار التي كانت تتطاير من ضربات مطرقة الحداد كاوا على السيف، وذهب كوردومتيوس إلى قمة جبل سيپاني خلاتي ليمنح شعبه بما وعد، فجمع قومه وقال لهم: هذا النار هدية من ربكم لكم فحافظوا عليه وبه تكتمل كل صفاتكم لتكون أمة قوية موحدة، ومع اشراقة الصباح سيبدأ يومكم الجديد، (نوروز) مبارك لكم!

في تلك الليلة انقشع ظلام الليل وانتشر النور في كل مكان ومع بزوغ الفجر خرج الكرد إلى الطبيعة واحتفلوا بالنار، واستفاق مزوس على رائحة النار والدخان ونظر إلى حوله فوجد في كل زاوية النيران مشتعلة فانتهابه خوف وغضب شديد وطالب من جنوده بإحضار كوردومتيوس اليه فورا، فاعتقله جنود مزوس وقيدوه بصخرة كبيرة ومن ثم قام مزوس بشق صدره وفي كل يوم كان يحضر طيرا ليأكل كبده وفي الليل كان يلتئم كبده من جديد، وهكذا والى يومنا وفي كل يوم يهجم ثلاثة طيور اما طير (عرب باز) أو (ترك باز) أو (فارس باز) ليأكل كبده في النهار وصراخات كوردومتيوس تملأ الدنيا ولكن ما من أحد يأتي لنجدته، ومع ذلك ظل مزوس خائفا من قوة قوم كوردمتيوس لان النار أصبح بيد قومه، وظل يفكر ايام وليال واجال في رأسه افكار حتى وصل في النهاية إلى فكرة جهنمية للتخلص من الكرد، وعندئذ صاح فرحا على (برا متيوس) ووصل ضحكاته الى اعالي السماء، وطلب منه خلق أخ للكرد، وقام برامتيوس بخلق امرأة جميلة سماها (برادورا) وزينها بالحلي والالماس والمجوهرات حتى أن جمالها شد انتباه الله ولم يشبع من النظر لنور جمالها، خاطبت برادورا الله بصوتها الحلو واللطيف في ان توكل لها مهمتها، فاعطاها الله صندوقًا وقال لها اذهبي الى قوم الكرد وامنحهم هذا الصندوق هدية لهم، وبعدما ان وصلت برادورا إلى الجبال ازداد فضولها في معرفة ماذا يوجد في الصندوق، حيث كان الصندوق يحتوي على كل الصفات القومية للكرد وبمجرد فتح الصندوق سيتطاير الصفات المميزة للكرد، فتحت برادورا الصندوق واغلق فورا الا ان وفي هذا الاثناء طار عنصر (شيء ما) من الصندوق، حاولت أن تمسك به الا انها لم تفلح، وهذا العنصر الذي طار من الصندوق كانت “الوحدة” وبهذا تشتت القبائل الكردية السبع وتقاتلوا فيما بينهم على برادورا وبهذا تشتت قوة الكرد وسادت بينهم الشقاق والتشرزم والى يومنا، يجتمع الكرد فقط مرة واحدة في السنة حول النار على أمل الوحدة)).

وختاماً: فأن واضع الاسطورة تلك إنما أراد في النهاية أن يعطي المستمع إنطباعاً يراد منه أن الكرد ظلّوا مشتتين طوال التاريخ بحكم عوامل معقدة ومختلفة…

وأن القاسم المشترك الذي يوحدهم هي شعلة النوروز التي كما تقول الإسطورة أن (الله) لم يمنح النار لأحد لما لمكانتها الفريدة في الكون… لكن (كورد ميتوس) كان يلح في طلب النار وفي النهاية بحيازته للنار إستطاع أن يوحد شعبه على كلمةواحدة، لقد ظل قوم (كورد ميتوس) ورغم عدم توحدهم للآن، متوحدين حول النار ولمرة واحدة في السنة، ورغم تشتتهم وتشرذمهم فالنار هي ملازهم الوحيد “شعلة نوروز ” هي أملهم وضالتهم في الوحدة ولم الشمل.