روماف – فن
أن تهرب بعض الدراما السورية من الواقع الحالي إلى الواقع التاريخي، أو الفانتازيا، هذا هو الذكاء الذي يحسب لصناعه، بعد غياب ليس بالقصير عن المنافسة في هذا الحقل المهم والمربح، وذلك لاستعادة جماهريتها المرتجاة من جهة، ولممارسة دورها كأداة دبلوماسية ناعمة تشارك بطريقة سلسة في إحداث تغيير في المزاج العام، وإبعاده عن القضايا الراهنة المقلقة للجهة التي تمولها، أو تساندها، من جهة مقابلة.
وبعيدًا عن التصنيف السياسي في ظل الصراع السوري الممتد من نحو 13 عامًا حتى اليوم، وهو الذي حكم ويحكم التقييم “المواطني” للأعمال السورية على اختلاف مواضيعها، وفقًا لمقاييس غير موضوعية ــ في كثير من الأحيان ــ لكل من الموالاة والمعارضة المعتمدة من كل طرف في مقابل الطرف الآخر، فإن الفن السوري لا يستطيع إسقاط المشتركات التي جمعت بين مبدعيه ومتلقيه لعقود سابقة، سواء من أمام الشاشات، أو من خلفها، من فنانين وكتاب ومخرجين وكادر فني، لتقديمها للمشاهدين على اختلاف شرائحهم وانتماءاتهم واصطفافاتهم، وهذا هو الرهان على قدرة الفن في كسب المعركة للفت الانتباه إلى قضايا نوعية وحالات ثقافية من أي زمن تناولها.
ففي وقت يصعب فيه على الدراما تحديد نوع الجمهور المحلي، أو العربي، الذي تتوجه له، وترغب في توسيع نشاطها ومشاهداتها لأكبر عدد ممكن، فهي تذهب إلى تعتيم موقفها السياسي أحيانًا، من دون أن تتخلى عن أهدافها الرامية، إما إلى انتزاع العبر من الماضي الذي تستخدمه كأدوات تبني عليها قصصها، وإسقاطها على الواقع الحالي، أو أنها تمارس عبر التماهي مع الأحداث التاريخية عملية تركيب أحداث وهمية، وبطولات خارقة، لصناعة أمجاد حالية، لشخصيات، أو مكونات مجتمعية.
"استعاد الكاتب عمر أبو سعدة بطولات الشرطة والمخابرات الوطنية في مواجهة الاحتلال الفرنسي، ما يرفع الحرج عن الواقع المدان الذي تعيشه الأجهزة الأمنية السورية الحالية، وهي الغارقة في بحر الدم السوري" |
فعلى سبيل المثال في مسلسل “تاج”، الذي عرض في رمضان 2024، استعاد الكاتب عمر أبو سعدة بطولات الشرطة والمخابرات الوطنية في مواجهة الاحتلال الفرنسي. يذكر أبو سعدة، أيضًا، خيانات فردية لأشخاص وضباط وعناصر شرطية، للتأكيد على أن الفساد في الأجهزة الأمنية موجود ومتداول على مر العصور، وهو مجرد حالات فردية لمصالح شخصية، ما يرفع الحرج عن الواقع المدان الذي تعيشه الأجهزة الأمنية السورية الحالية، وهي الغارقة في بحر الدم السوري، وفقًا لمسلسلات تعتمد القصص المعاصرة منها “كسر عظم” في جزئه الأول، للكاتب علي معين صالح، أو الجزء الثاني منه “السراديب” للكاتبين هلال الأحمد، ورند الحديدي، “على اختلاف مستوييهما الفني”، والتي تركز على أن نزوع كبار من ضباط الأجهزة الأمنية إلى العنف المبالغ فيه، هي ممارسات مصلحية فردية “مدانة” وغير مؤسساتية.
يمكن القول إن الدراما السورية كانت في حاجة لعمل يلطف من صورة دمشق “المتوحشة”، أو “المهدمة”، التي طبعتها، أو وثقتها، الأخبار اليومية منذ انطلاق الثورة عام 2011 وحتى اليوم، وكذلك مسلسلات الواقع الحالي، التي علا فيها صوت الصراع السوري بعد صمت الدراما في السنوات الثلاث الأولى عنه، ويعيد إليها ذكريات دمشق ما قبل الحرب المشتعلة، وليس من مشهد أجمل من دمشق ساحة المرجة، وبحيرات البيوت الدمشقية، وحجارة برلمانها، وحدائقها ومباني جامعتها الدمشقية التي كان يعتد بها وبخريجيها، وكأن الكاتب أراد من تداخل المشاهد التمثيلية الجميلة للفنانين السوريين، مع اللقطات الوثائقية أن يحيي بقلوب عشاقها ــ من سوريين وعرب ــ ذلك الشغف المتمكن من قلوبهم، فتحل هذه الصور محل واقعها المهدم والممزق سكنًا وسكانًا، ويؤسس من خلالها لعهد التطبيع العربي الجديد معها.
لهذا يمكن أن يكون النجاح الأكبر لمسلسل “تاج”، الذي عرض في رمضان، وهو من بطولة الفنان تيم حسن، والمبدع بسام كوسا، ومجموعة متميزة من الفنانين، هو تقديمه لصور وثائقية لمدينة دمشق بكامل رونقها، وتألق وتأنق سكانها، وبحلتها الحضارية والنوعية، ورمزية ساحة المرجة، وتنوع نشاطاتها الاقتصادية والتجارية، وتمازج الحياة الغربية مع شرقية فنونها، والحضور اللافت للمرأة المثقفة، أو الشعبية، أو حتى “بائعة الهوى”، وتوحدهم جميعًا تحت يافطة العمل الوطني، فهي المدينة التي تنبض بالحياة، رغم الموت الذي حاصرها عبر بنادق ومدفعية الاحتلال الفرنسي، وكأن صانع الدراما كان يستمع لصرخات المشاهد الدمشقي، والسوري، والعربي، من خلف الشاشات: هذه عاصمتنا، تلك الأزقة التي تحنو على ثوارها، وتلم شمل أبنائها، بين جدرانها أمان المحبين، والغاضبين، والمختلفين فيها وعليها، إلا أن الواقع الموجع أيها الحالمون يقول أنها “لم تعد”.
لم تتخل الأحداث في “تاج” عن وجود الصراعات المسلحة، كما هي الحال في الصراع مع المحتل، لتكون بديلة عن الصراع مع السلطة والفساد، من خلال حكاية البطل (تيم حسن) الذي يقوم بدور ملاكم يقود مجموعة ثائرة تنقلب عليه بعد إدانته بتهمة الخيانة، التي ينجو منها، بعد أن أسبغ عليه الكاتب الصفات الخارقة التي تجعله ينجو من كل موت محتم، أو اعتقال محكم، وبالمقابل إن شخصية الخائن (رياض) التي يجسدها بسام كوسا، ويبدع في منح المشاهد تفاصيلها، تتماشى مع خط متعارف عليه مدرسيًا، ولا جديد فيه، وهو ارتباط عمله بالعمالة، والربح المالي، والسلطة المتمثلة بالاحتلال.
إنها سحر الأسطورة الشعبية التي تتعربش على حدث تاريخي، من حقبة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي التي شهدت النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي لسورية، ومن خلال هذه السردية التاريخية (غير الحرفية)، تمرر رسائل مجتمعية، وسياسية راهنة، وتبني أساطير مجتمعية فوق “سوبرمانية”، لتتداخل في ذاكرة الأجيال أحداث الحقيقة مع الخيال، فلا تعود هناك حقائق ولا أكاذيب، ولكنها تنتهي بانتصار الخير على الشر وعقابه.
إنه القلم والمخرج والمنتج، فلا نعود كمتابعين نعرف: إذا كان المغزى هو أن الانتصار على الباطل يحتاج إلى أن ترافقه معجزات! كما تحدث في أحداث مسلسل يلوي عنق التاريخ، ويعصره ليخرج منه بطل كما هو “تاج”، أم أن الحق ينتصر بالعمل والمثابرة والتضحيات، ولو بعد حين.
كاتبة سورية