روماف – رأي
يحسب لمسلسل “ابتسم أيها الجنرال” الذي عرض على شاشة فضائية “العربي 2″ و”تلفزيون سوريا” خلال شهر رمضان المبارك، إسناد شخصية رجل الأمن إلى الفنان عبد الحكيم قطيفان، الممثل صاحب الحضور الراقي، والمحبوب شعبيًا على المستويين من معارضين للنظام السوري علنًا، وكثير من الموالاة سرًّا، ومنحها صفات الدهاء والذكاء وحلحلة العقد العالقة، لتغيير مفهوم صورة رجل الأمن السوري من سجان إلى صانع السجن وأسبابه، ومن رجل المعسكرات إلى “دون جوان” السهرات، وتوسيع دوائر علاقاته التي تصل إلى غرف نوم أصحاب السيادة والسعادة وأصغر عامل بناء في حي فقير، حيث لا يمكن الإبقاء على النظرة التعسفية المحصورة برجال الأمن عاقدي الجبين بلباسهم العسكري، وتواضع حيلتهم، ومحدودية ذكائهم، في وقت قد يكونون يمثلون فيه ما يسمى بالدولة العميقة.
يمثل رجل الأمن السوري السُلطة بكل انعكاساتها على الأرض، من سلطة مالية وتشريعية إلى تنفيذية ورقابية، يمتلك كل منهم قانونه الخاص وأدوات تنفيذه، ولا يعني افتراق التسميات للفروع الأمنية التي تقارب نحو عشرين اسمًا أنها مقيدة بتخصصها، فلكل منها حججه التي تؤدي إلى امتلاك ذات أسباب القوة المفرطة تجاه خصومه من المواطنين، فلا يختص الأمن السياسي على سبيل المثال بما تحمله دلالات الاسم من جرائم، ولا يعني فرع فلسطين أنه يعالج قضايا تمس القضية الفلسطينية، وعلى ذلك القياس، فرع أمن الدولة، والاقتصادي، والعسكري، والجوي، والمعلوماتي، وأمن المنطقة، وفروع الأرقام من 18 إلى 216 إلى 91 و92 وغيرهم بتوابعهم المناطقية الكثيرة، حتى يخيل للمرء أنهم مكاتب تتقاسم السوريين فيما بينهم لضمان عدم حياد مرجعيتهم الفكرية عن الطاعة الكلية لهم، وتحديد مسارات أحلامهم المستقبلية.
وبكثير من الواقعية نستطيع القول أن منظومة الأمن في سورية تمكنت خلال العقدين الماضيين من تطوير أدواتها على صعيد الصورة، فقد انشقت عن صورة الرجل العسكري بمظهره الجدي ولباسه الموحد، لتقدم لنا “دون جوانات” بملابس عصرية من أرقى الماركات العالمية، ومكنتهم من دورات تدريبة في دول أوروبية، وألحقتهم بالجامعات لينالوا درجات علمية عالية، بغض النظر عن حقيقة مستوياتهم التعليمية والفكرية، ودمجتهم في بعض منتديات الثقافة والاقتصاد ومراكز الأبحاث، دون أن يعني ذلك تخليها عن حقيقتها الأمنية الغارقة بالقسوة والعنف وانتزاع مكامن الرحمة الإنسانية، والقيم الأخلاقية، فقدمت نموذجها الجديد كخلطة بين الحداثة التي تساير وجود رئيس شاب قادم من جامعته “اللندنية”، ووريث سلطة “جمهورية” تتزعزع أساساتها ما لم تحكم بوحشية العقلية الأمنية الاعتيادية.
منح رأس النظام السوري في العقود الخمسة السابقة أجهزته الأمنية صلاحيات واسعة بل مطلقة ضد السوريين، وشرعنها بقوانين وإجراءات نافذة، لحمايتهم من أي محاسبة على جرائمهم! |
هذه الالتفاتة إلى تغيير صورة الرجل الأمني، والسماح له بالصعود إلى مسرح الأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وممارسة مختلف الأدوار من ضمنها دور “الدون جوان” الذي انعكست شخصيته في بعض المسلسلات السورية على السواء قبل الثورة أو بعدها، والذي يأخذ مكانته الذكورية من مكانته الأمنية، ويمارس الحب مع النساء عبر الترهيب وليس فقط من باب الترغيب بالمزايا والعطايا العينية أو المعنوية، كانت أحد أبواب الفساد من جهة، وكانت إحدى وسائل النظام للضغط باتجاه التغيير السلبي لمنظومة القيم الاجتماعية السائدة من جهة مقابلة.
تمثل اليوم بعض الجهات الأمنية سلطة موازية لسلطة الرئيس القائمة، وليست فقط سلطة داعمة لوجوده، حيث تستمد قوتها من دعم أو قبول خارجي لها، على حساب تناقص أو تصفير القبول الدولي للأسد الابن، وهو ما يتيح المجال لعقد توافقات دولية بجهود تلك الشخصيات الأمنية وعلاقاتها الدولية، التي نشأت عبر برامج تدريبية ودراسات خارجية، ومهمات تم تنفيذها داخليًا وخارجيًا، أي أنها شخصيات مجربة على الصعيدين، الأمن الداخلي والخارجي، ما يؤهلها لإعطاء ضمانات الاتفاقات الأمنية والعسكرية، وحتى السياسية.
ربما الأدوار الجديدة التي تلعبها الشخصيات الأمنية هو ما يفسر عدم انقطاع استقبال كثير من الدول الأوروبية والعربية للشخصيات الأمنية على مدار الأعوام السابقة، رغم إعلان القطيعة مع النظام السوري، وإغلاق السفارات وتفعيل العقوبات ضده، وترجيح كفة هؤلاء من أتباع النظام على كفة المعارضة، التي عملت على استبعاد و”تطفيش” ما استطاعت من شخصيات وقامات سورية ذات مؤهلات وتجارب سياسية وتنفيذية، ليحل مكانها من غير ذوي الخبرة والكفاءة والعمق السياسي.
لا يقر بعض المعارضين التقليديين للنظام السوري من الجيل القديم أو الحديث، بوجود هذه الفروقات بين مفهوم عمل الأجهزة الأمنية وشخصياتها في السابق والحاضر، بتقنياتها وتغلغلها الاجتماعي الفاعل، وهم أيضًا لا يريدون الخروج عن تصوراتهم المسبقة عن النظام القمعي، والذي يلعب – حسب رأيهم- بورقة العنف فقط، متناسين أنه كتب تاريخه كما يحلو له، بفعل تطور أدواته وبخاصة الأمنية منها، وقدرته على تغييب الإعلام الحر من جهة، وتمكن السلطة من إغلاق البلاد، وصنع صورة لعالمه الداخلي بالتفاصيل التي تروقه، ووفق رؤيته له سواء عبر السياسة أو الفن أو الثقافة من جهة ثانية، واستطاع أن يطوّع العقوبات الدولية عليه، والتي امتدت لعقود على سورية، لتكون أداته في بناء أسوار السجن السوري الكبير من جهة ثالثة فكان ذلك تجسيدًا عمليًا من النظام السوري للمثل القائل “ربّ ضارة نافعة”.
لقد منح رأس النظام السوري في العقود الخمسة السابقة أجهزته الأمنية صلاحيات واسعة بل مطلقة ضد السوريين، وشرعنها بقوانين وإجراءات نافذة، لحمايتهم من أي محاسبة على جرائمهم، وطور قدراتهم التقنية والبشرية الإجرامية، حيث مكنهم من تنفيذ تجاربهم القمعية على اللحم الحي في أماكن الاحتجاز والسجون والمعتقلات، لينقلهم من منفذين إلى شركاء في الجريمة، كشراكتهم الاقتصادية والاجتماعية، ما يعني إبقاءهم أحجار شطرنج على رقعته السلطوية، فصار وجوده ضمانًا لوجودهم، وهو ما يفسر تماسكهم خلال 12 عامًا من حربهم على السوريين والصراع على السلطة والدولة والهوية.
هذه صورة رجل الأمن التي قدمها كاتب مسلسل “ابتسم أيها الجنرال”، المبدع سامر رضوان، ومثلها باحترافية شديدة “مهيوب” الشاشة السورية عبد الحكيم قطيفان، تمثل حالة انقلاب على الصورة النمطية لها، لكنها لا تبتعد عن حقيقة الواقع السوري، سواء في انفتاح زاوية صلاحياته، أو في دقة تتبع أخطائه، مهما تناهت في الصغر لتنسج له حبل مشنقته، أو السم للعشاء الأخير، أو تصنع عبوة ناسفة تطيح بغرفة اجتماعاته.
*كاتبة سورية