روماف – ثقافة
كنت منذ مدة وعدت بعض الأصدقاء أن أطهو لهم طعامًا سوريًا وأدعوهم لنقضي عشاء هادئًا في شقتي الصغيرة؛ لكنني كلما قررت فعل ذلك تراجعت وأحجمت، ليس لأنني لست قادرة على احتمال كلفة عشاء لستة أشخاص، رغم الارتفاع الشديد في الأسعار، بل لأنني كلما هممت بدعوتهم أشعر أن طاقتي على فعل ذلك قد تبخرت. لا يتعلق الأمر بعملية الطبخ والطهو، فأنا من محبي المطبخ وتحضير الطعام، وإنما يتعلق بفكرة احتمال وجود أكثر من ثلاثة أشخاص معي، وبفكرة أن أقوم بالخطوات اللازمة لاستقبال عدد من الأصدقاء، كأن أوضب البيت بما يليق بوجود آخرين، وأن أجهز المائدة قبل وقت من قدومهم، وأن أهتم بكل التفاصيل الملحقة بعشاء كهذا، وأن أكون مستعدة بعد انتهاء العشاء ومغادرتهم للتنظيف والترتيب وإعادة البيت إلى ما كان عليه قبل قدومهم. لكن الأهم من كل ذلك هو في قدرتي على بذل جهد للقيام بكل ذلك، لا أتكلم هنا عن الجهد العضلي فأنا، أيضًا، ما زلت أتمتع بالكثير من النشاط رغم سنواتي التسع والخمسين. يتعلق الأمر بجهد نفسي عليّ أن أبذله للقيام بفعل استقبال مجموعة من الأصدقاء والاهتمام بهم ورعايتهم لمدة أربع أو خمس ساعات. قد يبدو الأمر مستغربًا لكم، فأنا أستغربه أيضًا، ذلك أن لا شيء كان يعادل عندي بهجة استقبال الأصدقاء وإعداد طعام العشاء لهم وسماعهم وهم يمتدحون طريقتي في الطبخ، ورؤيتهم وهم مبتهجون لوجودهم في منزلي؛ لهذا الأمر بُعد آخر أيضًا: حين أتيت للاستقرار في مصر قبل أحد عشر عامًا لم يكن لي فيها أصدقاء ولا أهل، كان عليّ أن أؤسس ذاكرة وأبني تفاصيل يومية في علاقتي بها كي لا أشعر أنني غريبة، وكي لا أشعر بالوحدة على الأغلب. عملية التأسيس هذه تطلبت مني معرفة كثيرين هنا، لم يتبق منهم في حياتي اليومية إلا قلة قليلة تكفي لأشعر بالأمان والطمأنينة أنني في بيئتي. خلال سنوات وجودي في القاهرة حتى الآن كان بيتي الصغير يستقبل الكثير من الأصدقاء وأصدقائهم في سهرات وعشاءات لطيفة وصاخبة، أطبخ لهم فيها طعامًا سوريًا، وأستمتع باستمتاعهم بمذاق الطعام (المعدة طريق مفتوحة إلى قلوب الجميع وليس فقط قلوب الرجال، بالنسبة لي مذاق الطعام يعطيني فكرة عن طباع من يطهوه، ربما هي فكرة مجازية لكنني أؤمن بها بدون أي سبب واضح، كالكثير من إيماناتي في هذه الحياة). لكن مع الوقت بدأت تلك العادة عندي تختفي شيئًا فشيئًا. صرت أكثر ميلًا إلى أن القليل من الأصدقاء الحقيقيين يكفي للاستمرار في حياة مستقرة، نسبيًا (بعد خذلانات مريرة ودروس قاسية)؛ كنت أتقدم في السن أيضًا واختبرتني الحياة في موضع الحب، أصبت بنوبة قلبية كانت جراحة القلب المفتوح هي السبيل الوحيد للتخلص منها، كسرت الأيام قلبي، مثلما فتكت الخذلانات بجسدي، الخذلانات الفردية والخذلانات العامة، الحزن واليأس والوحدة والغربة والفقد، الفقد الذي يبدو كما لو أنه قدرنا نحن السوريين أينما كنا، فقدنا الوطن والهوية والانتماء والطمأنينة، لم نعد نعرف من نحن، وإلى أي أرض ننتمي وإلى أي هوية ننتسب.
ثم أتى الكوفيد، فايروس حقير استطاع خلال أيام قليلة أن يعيد فتح ملفات الخوف كلها في جوفي، مثلما حدث مع كل البشرية؛ تحوّل الخوف إلى سجن حقيقي بجدران عالية ونوافذ مفتوحة لكن على الريبة والخشية والنفور والكراهية، تحوّل البشر في سنتي الفايروس إلى نوع كاره لكل ما يمكن أن ينقل الفايروس. صرنا نخشى مقابلة الآخرين، نخشى ملامستهم، نخشى الاقتراب منهم، نخشى مجاورتهم، نبتعد عنهم كما لو أنهم هم الفايروس بحد ذاته، خفنا من حيواناتنا الأليفة، كرهناها وألقيناها في الشوارع، خفنا من أولادنا وهم يتمردون على الخوف، تحول الخوف إلى مناخ، إلى طقس، إلى شلل عام كنا نظنه مفروضًا، واستبشرنا حين بدأت البشرية تعود إلى حياتها الطبيعية. استبشرنا أن رغبة الحياة أقوى من غريزة الخوف وأن للبشر خاصية التفوق والاستمرار؛ لكن سرعان ما أدركنا أن هناك ما قد تغير في دواخلنا، وأننا لن نستطيع العودة إلى ما كنا عليه قبل الفايروس البتة.
لأتحدث هنا عمن هم في سني، في أواخر خمسينياتهم وأوائل ستينياتهم. حيث القدرة النفسية والجسدية على التجاوز والنسيان تصبح كل يوم أوهى من الذي قبله. يخيل إلي أحيانًا أن وهن الجسد ومحاولاته مقاومة عوامل الزمن يترك أثره أيضًا على وضعنا النفسي وعلى طاقتنا على العيش بعادية. العادية هي أن نمارس تفاصيل حياتنا دون خوف ودون تردد، لكن هذا لم يحدث معي للأسف، لم يحدث مع الكثير من أصدقائي أيضًا، بتنا نشعر أننا أكثر ثقلًا من خفة عادية الحياة، أكثر ثقلًا من أن نتعامل معها بوصفها عابرة ولا تستحق، رغم أن الموت عادة ما يخفف من جدية الحياة وصرامتها لصالح الخفة والعبث. لكن ما حدث هو أن الخوف قيدنا بسلاسل ثقيلة، نمشي متثاقلين، نفكر متثاقلين، نحب متثاقلين، نخرج من قوقعة بيوتنا متثاقلين، نخرج من جدران أجسادنا متثاقلين، كما لو أن أحدًا نسي أن يفك تلك السلاسل عنا مع عبور الفايروس ومرور وقته الثقيل. الجسد بيت، الجسد بكل ما يحتويه، هو بيت مغلق، عليك أنت وحدك أن تفتح نوافذه كي لا تبقى حبيس ذاتك. ما حدث هو أنني بدأت أنسى كيف أفتح نوافذي، كيف أطل على الحياة وأستقبل ضوءها. قد يكون في كلامي مبالغة من نوع ما، يمكنكم أيضًا اعتباره مجازًا، إذ يحتمل المجاز المبالغات، لكني كثيرًا ما أشعر بهذا: كما لو أنني أعيش داخل جدران ذاتي أبحث عن قوة بي لأفتح نافذة ما كي أتنفس كي أتواصل مع غير نفسي كي أشعر مجددًا بقوة حياتي فأكتشف أنني عاجزة أو أنني بلا طاقة لفعل ذلك وأنني خائفة من فكرة الخوف نفسها. هل هناك أكثر قسوة من أن نخاف من الشعور بالخوف؟ تلك هي تحديدًا الدائرة المتلفة للروح والمعطلة للحياة والتي تجعلني في هذه اللحظة التي أكتب فيها ما أكتب، أفكر بطرق لفكها محاولة النفاذ بجلدي من براثنها، أنا التي خرجت من اختبارات في حياتي أشد خطورة وأكثر قسوة. أفكر الآن كيف سأستعيد توازنًا عوّدت نفسي عليه بعد أن شفيت من جراحة القلب الخطيرة ومن أمراض أخرى مهلكة، وفقدته حينما عاشت البشرية وهي تراقب فايروسًا حقيرًا يمد لها لسانه ساخرًا من ضعفها. أفكر كيف سأستعيد تلك القوة الداخلية التي لا تخشى المواجهة ولا تهاب المصاعب، كيف سأستعيد ثقة أستمدها عادة من الآخرين، ثقة وأمانًا لا أشعر بهما مطلقًا في العزلة. قد تستغربون هذا، لكنني لا أطيق العزلة، أجمل الأمكنة في العالم تتوازى مع صحراء قاحلة إن كنت فيها وحدي. المشاركة والتواصل هو ما يجعل مني امرأة قوية ومتوازنة، أريد الآن أن أستعيد تلك المرأة التي كنتها؛ أن أستعيد بهجة المشاركة مع الآخرين: الرجل الذي أحبه، أصدقائي، عائلتي، معارفي، جيراني، الناس في الشارع، في المقاهي، في البارات، في الأسواق، أريد أن أوقف هذا الخوف الذي يجعلني ثقيلة ومترددة ومنكمشة كعجوز تتقدم في السن قدمًا ولا رفيق لها سوى عكازتها. الخوف عجز وأنا أن أبقى شابة تستعد كل يوم لاستقبال الحياة وتطهو طعامًا لذيذًا في انتظار أصدقائها.
ضفة ثالثة