قراءة: صور الحرب القادمة

صور الحرب القادمة

تتكرّر مأساة السوريين مع أخبار الحروب التي تنشب هنا وهناك، وتداعياتها، حيث أطفال وشيوخ ونساء يتسابقون على فرص النجاة، والرجال بين أحياء ذاهبون إلى الموت، وأموات بلا قبور، هذه حال بلادنا المشتعلة، من فلسطين إلى اليمن حتى السودان، ومن سورية إلى ليبيا، والعراق وتونس، ولا يزال الخراب يطرق أبواب الباحثين عن حريتهم، مشاهد هزيمتنا الإنسانية واحدة، وسلاح القتلة وأسباب جريمتهم واحدة، تتكرر مشاهد العنف كأنها مقرر إجباري على شعوبنا، تعيد إنتاجه الصور المتلفزة كحلقات معادة من حروب وأزمان سابقة.

على جنبات الطرق ثمة جثث ممددة، كان الجميع يتفقدها ثم يرحلون، ليس أبي، ليس أخي، امرأة تصرخ من بعيد: “هذا ابني”، يقف الجميع بلا حراك، تتفقدهم الواحد، تلو الآخر، ترفع بيدها رؤوسهم، ثم تلقي بجسدها إلى جانب الجسد الممدد، وتغرق في سكينة الذهول. هدير الدبابات يفزع الناس، فيتفرقون، تبقى هي وحيدة، تستعد للحظة لقاء تجمعها بمصير ابنها، تمر العربة فوق حلم مستقبلها، تراقب عن كثب موتها المنتظر، تلف ما تبقى من ذراعها حول عنقه، وتقرأ عليه قصيدة الصعود الأخير، وترحل راضية مرضية.

في البناء المقابل كل ما يحتاجه الساكن أن تهدأ عاصفة الرمل المتناثر، ليطمئن أنه دفن بردم بيته. كان صوت الصاروخ كافيًا ليعرف الناس مع تجربة السنين أنه حان اليوم دورهم. تلتحف النساء بأغطية الصلاة انتظارًا لموعدها مع الموت. غابت الألوان الزاهية من منازل معظم السوريين، صارت عيبًا في زمن الثورة، أو المأساة. تحولت الحياة إلى محطة انتظار لغياب قادم، تستقبله كل امرأة على طريقتها في وداع ماضيها. بعضهن يصنعّن أكفانهن بعناية “عروس” تتجهز ليوم زفاف قريب، وأخريات يستسلمن لليأس كأن الحياة صارت هي العبء الثقيل، فيترجلن عنها طواعية، لا يهرعن إلى النجاة. ربما تساوى كل شيء عند السوريين، الموت تحت ركام أبنيتهم، أو في عرض بحر غادر، أو على تلال أو سهول أو خنادق حدود تبتلع العابرين منها وعليها.

تتعاقب الصور على المحطات الفضائية، بلد آخر يشتعل، صراخ الخائفين يتعالى، نساء يحملنّ الرضع، ورجال تجر الرحال، من خلفهم أبنية تنهار فوق رؤوس أصحابها، أصرخ هذا منزلنا، وهذا الحي أعرفه، يقول زوجي هذه “الخرطوم” وتلك “صنعاء”، وليست دمشق ولا ريفها، ليست درعا، ولا حمص، وليست الصور من حلب أو حماة، المذيع لا يتحدث عن دير الزور أو القامشلي والحسكة، اليوم لا أخبار عن إدلب، او السويداء، المشاهد هذه ليست من سورية.

يتنقل الحاضرون بين نشرات الأخبار، بينما أبقى أنا عالقة في الحرب، أزيز الرصاص وصوت المدافع، وانفجارات الصواريخ، ورشقات نصر هذا الفصيل، وانسحابات هنا، وإعادة انتشار هناك، سلسال من الدم يجمع مدننا العربية، ويصنع منه إطارًا لصورة خراب واحد يمتد من تونس إلى مصر واليمن وليبيا، وصولًا إلى سورية، التي ترخي بظلالها على كل ما حولها لبنان والأردن وتركيا. هذه الصور جميعها لضحية واحدة بأسماء عديدة، تملأ الشاشات أوقات بثها بتغيير مواقع وزوايا تصويرها، لكنها جميعها نسخة عن دمارنا، وموتنا الذي اختبرناه تحت الآلة العسكرية باسم حماية أوطان أوهنتها كلمة حرية.

يرحل الآملون بالحياة، أو يهربون، إلى موت أقل همجية من وحوش بلدانهم، ينتشرون في طرقات الهجرة، وتثقل أكتافهم جنسياتهم العربية، لا زلت أذكر تحية الصباح في المدرسة: “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”، ولا يزال السؤال عالقًا في حلقي إلى أن عصفت رياح الثورات بديارنا، فأغلقت في وجوهنا الأبواب العربية، فكنا أمة واحدة يهجر أبناؤها دفعة واحدة، ويموت شعبها من أجل رسالة واحدة، وتموت قضاياها دفعة واحدة.

كنت في المرحلة الإعدادية حين وقعت طلب الانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي، لا أستطيع ادعاء أنني فعلت ذلك مجبرة، فقد كانت شعاراته تلامس مشاعر صبية تعنيها قضية فلسطين، تربت على مفرداتها في بيت فيه الموظف والضابط والشبيبي. كانت الاجتماعات مثل صباحاتنا المدرسية الإجبارية تبدأ بشعار: “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”. وفي كتبنا تعيش ذاكرة التغريبة الفلسطينية، وجوه المرحلين، وحول أعناقهم مفاتيح البيوت الموعودة بعودتهم. وحدها تلك الصور هي ماضي صورنا، ونحن حاضرها، من يمنيين، سوريين، سودانيين، عراقيين، وغيرنا…، نسخ متطابقة لشعوب مهزومة من قادتها، تنتزع مكانتها في الأخبار، بدماء تسيل وضحايا تسلم راياتها لضحايا.

نحن شعوب البلاد التي يتناحر قادتها، ويتقاسمنا رؤساؤنا على موائدهم، ننعش نشرات الأخبار، نعيد إليها حيويتها، بمشاهد ترحيلنا، هجرتنا الإجبارية، طرقنا التائهة التي تأخذها الأمواج المتلاطمة، وتلقي بجثث أولادنا ذات اليمين وذات الشمال، رحيلنا من غربة إلى غربة، أخبار البلاد التي تطردنا، والعنصرية التي تشعل خيام الباحثين عن الأمان في بلد جار اسمه لبنان، وتدفع بشبابنا إلى الانتحار. نحن الحدث المتجدد على الشاشات، توطيننا في بلاد لجوئنا أوراق انتخابية، وطردنا منها معارك انتخابية، ولا تزال للصور بقية، لأنها صور ماضينا وصور من الحرب، أو المأساة، القادمة. 

*كاتبة سورية.

صفحتنا على فيس بوك

أقرأ أيضاً

مقالات أخرى