في تأثير المصالحات التركية الإقليمية

روماف – رأي 

شفان إبراهيم

ستحمل المصالحة التركية مع السعودية إعادة العلاقات بين أنقرة والقاهرة، وستصبّ في مصلحة تركيا أكثر من باقي الأطراف، في ظل الوضع الاقتصادي التركي السيئ وتدهور قيمة الليرة التركية وارتفاع نسبة التضخم، حيث كلفة الوجود التركي في ليبيا وسورية وكردستان العراق مكلفة وباهظة جداً. في المقابل أغلقت تركيا قضية مقتل الصحافي السعودي في قنصلية بلاده في إسطنبول، جمال خاشقجي، فالنيابة العامة التركية ستحيل قضية محاكمة المتهمين إلى القضاء السعودي، ما يعني إغلاق الملف نهائيا من خلال الإطارين، القانوني والقضائي. ووفقاً للتوقعات السياسية، فإن أبرز مظاهر الاتفاق والتفاهمات بين الجانبين ستتعلق بملفات اليمن، العراق، العلاقات والمصالحة بين أنقرة والرياض وتأثيرها على دول أخرى، إضافة إلى ملفات الطاقة والنفط والتبادل الاقتصادي، والتعاون الأمني بينهما، سواء في اليمن أو ليبيا، خصوصا سورية المدرجة في خانة الأمن القومي التركي والعمق العربي. وربما مما يهم السوريين في هذه التفاصيل ملف هيئة التفاوض لقوة الثورة والمعارضة السورية؛ كونها نقطة التقاء مشترك بين أنقرة والرياض. وقد تشكلت الهيئة في 2015، للإشراف المباشر على العملية التفاوضية ضمن مساراتٍ ترعاها الأمم المتحدة، ثم تأسست النسخة الجديدة لها في مؤتمر الرياض 2 عام 2017، والتي اعتمدت الحل السياسي خيارا استراتيجيا، والاعتماد على بيانات جنيف1 وقراري مجلس الأمن 2118 و 2254، القاضية بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية.

وقد شكّل استلام إدارة الرئيس، جو بايدن، البيت الأبيض حافزا وضاغطا إضافيا لدى أنقرة والقاهرة والرياض وأبو ظبي للعبور إلى تفاهمات على كيفية إدارة الوضع الإقليمي، لسببين: عدم عداء الإدارة الأميركية الحالية، خصوصا أن ترطيب الأجواء بين الرياض وأنقرة بدأ منذ استلام بايدن رئاسة الولايات المتحدة. وأن البراغماتية العربية والتركية حركت هذه المصالحة؛ لاستغلال تراجع الدور الأميركي في الإقليم، بسبب غياب مشروعها السياسي والاقتصار على الملفين، الأمني والعسكري. مع تأكيد أهمية دور السلاح التركي في هذه المصالحة، فطائرات “بيرقدار” وغيرها أحدثت علامة فارقة في مسار الصراعات في سورية وليبيا وجنوب القوقاز وأرمينيا وأوكرانيا. وأحدث نجاح المسيّرات التركية رغبة خليجية في استعمالها، سواء في اليمن، أو لحماية حدودها، وهي إحدى رسائل الدعم التركي للسعودية والإمارات ضد الحوثيين في اليمن. وفي ملف آخر، لن يكون مستبعداً أن تضمن أنقرة وقوف إسرائيل إلى جانبها في صراعها مع اليونان والأوربيين بشأن ثروات شرق المتوسط ومحاولة عزل أنقرة عن الملف الليبي.

ويبدو أن إخفاق تيارات الإسلام السياسي في الحفاظ على السلطة والحكم في غير بلد عربي، خصوصا في مصر، لعبت دوراً مهماً في الاستدارة التركية نحو هذه المصالحة. لذا لجأت تركيا إلى فرض قيود صارمة على نشاط (وحركة) قيادات ونخب سياسية وإعلامية للإسلام السياسي المصري على أراضيها؛ عقب بدء التواصل التركي المصري. ويشي هذا التحول العميق في تغيير المقاربات التركية صوب علاقاتها بإدراك تركيا إن التيارات المناهضة للإسلام السياسي، سواء الشعبية أو السياسية والحزبية، نجحت في تغيير خريطة الإسلاميين في الربيع العربي ومشاريعهم. وقد شكّلت كل هذه الملفات ديناميكيات حركية بفاعلية كبيرة لإنهاء حالة الخلافات والتنافس السياسي والأمني على المنطقة، والتخلي عن “فلسفة” الاستفراد بإعادة توليف جيوبوليتيك منطقة الربيع العربي، وتفضيل التعاون في ملفاتٍ تخصّ كل الأطراف، منها الوجود التركي في ليبيا وسورية، وعلاقاتها في الخليج العربي، ورغبة السعودية ومصر والإمارات في الاستمرار في إحباط التحوّل الديمقراطي في ثورات الربيع العربي والنجاح في تحجيم لجّم حركات الإسلام السياسي.

تعيد تركيا رسم سياستها الخارجية، وتستعيد العمل على تصفير مشكلاتها مع دول المنطقة

وبعد خمس سنواتٍ من التوترات التي اقتربت إلى حد القطيعة، تعيد تركيا رسم سياستها الخارجية، وتستعيد العمل على تصفير مشكلاتها مع دول المنطقة. ولذلك تقترب العلاقات بين كل تلك الدول من إيجاد تكتلٍ سياسيِّ جديد يحمي مصالحها جميعاً، خصوصا قضايا الطاقة وطرق نقلها، ما سيعني تحوّلاً في السياسات الخارجية لكل تلك الدول. ويبدو أن تلك الأطراف أدركت أن الخلافات والصراعات لم تجلب الفائدة لها، ولم يتغير الإقليم جوهرياً بقدر ما استنفدت طاقات الجميع، وبدّدت فرص أي تعاون لحل الإشكالات العالقة، فالسعودية غيرت موقفها من تركيا، رغبة منها في ترميم علاقاتها وتحالفاتها وتوسيعها بعد توتر العلاقة بين الرياض وواشنطن، بسبب اتفاق تقوده أوبك مع روسيا أدّى إلى تفاقم أزمة إمدادات النفط في ظل الحرب الروسية ضد أوكرانيا. كما تدرك السعودية والإمارات مخاطر إيران عليهما، خصوصا أن احتمال توقيع الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة وارد بقوة، وهو ما يعني رفع العقوبات عن طهران. ولذا سيعني التحالف الجديد “تمرير” مصالح كل طرف لدى الآخر، وإن على حساب باقي الأطراف. وليس من دول أخرى ستقف في وجه مصالحهما، ما دامت المصالحة التركية – العربية ستأتي بالنفع العام على كل أطراف تلك المصالحة.

وفي الجهة المقابلة لكل تلك الملفات، ولا يمكن تجاهلها أو إبعادها عن آفاق هذه المصالحة وأبعادها، سيكون الشمال السوري أحد مسارح نتائجها. وفقاً للحسابات التركية في استتباب الاستقرار، سواء في الشمال الغربي، مع زيادة حدّة التهديدات والهجمات على الشمال الشرقي للمناطق الرخوة في سيطرة “الإدارة الذاتية” (الكردية)، كالرقة، دير الزور، منبج، عين عيسى، خصوصا مع تشكيل كُرد سورية الحلقة الأضعف في كل الموازين والعلاقات الدولية والإقليمية. وغالبية الاتفاقيات أو تغيير مواقع التحالفات، غالباً ما تأتي بالضد من مصالحهم، ولن تكون مناطق سيطرة الإدارة الذاتية بخير مع هذه المصالحة. وصحيحٌ أن هذه “الإدارة الذاتية” لم تكن أبداً بين ملفات التوتر بين تركيا والسعودية، ولم تعتمد في علاقاتها على الدول العربية، لكنها على ما يبدو لن تصبح جزءاً من آفاق إبعاد مستويات خطر تركيا وفصائل المعارضة السورية عليها. ولن تستبدل أنقرة والرياض مصالحهما المتبادلة، كما أنهما لن يستغنيا عن علاقاتهما مع إقليم كردستان العراق بنداءات “الإدارة الذاتية”، خصوصا وأن هذه المصالحة تمثل جوهر الأمن الاستراتيجي لهما.

من المتوقع أن تزيد المصالحة التركية – العربية الأعباء على “الإدارة الذاتية”

لذا من المتوقع أن تزيد المصالحة التركية – العربية الأعباء على “الإدارة الذاتية” التي ربما ستواجه ضغوطا كثيرة؛ لأن أعداء الأمس مع تركيا تحولوا إلى أصدقاء، وستشعر “الإدارة الذاتية” بالصعوبة الضخمة لضمّها إلى مسارات الحل السياسي، وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية. عدا أن وجود تركيا في مناطق عربية في سورية كانت تشكل انزعاجاً عربياً يرتقي إلى مستوى الشعور بالتهديد الاستراتيجي للقضايا العربية، والتي لم تتمكّن الإدارة الذاتية من استغلالها أو الاستفادة منها. لكن التصالح ربما يعني قبول طلبات تركيا مقابل حقبة جديدة من العمل المشترك، إذا تمكّنت تركيا من إقناع السعودية بإمكانية إسناد إدارة تلك المناطق إلى هياكل حكمٍ عربيةٍ مسلمة سنّية. وكما عملت أنقرة على إبعاد كل الأصوات المعادية للقاهرة من الأراضي التركية، فإنه يُرجّح بطلب مماثل من مصر أن تغلق القاهرة مكتب مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) لديها.

قصارى القول: لم تستقر سياسات جميع الدول الداخلة في خلافات وصراعات حول مجمل القضايا الإقليمية على مسارات محدّدة وواضحة، لتكون مستعدّة لأي تغيرات مرحلية مقبلة. لذلك دخلت تركيا في علاقات مع أبوظبي، ثم إعادة إنعاش مع تل أبيب، وحالياً مع الرياض ثم القاهرة، وتتجه إلى الحلول حتّى مع أرمينيا، ذلك كله ولا تزال العلاقات بين تركيا والإدارة الذاتية في مراحل الخطر والهجوم المحتمل، بل لا تحمل السياسة التركية تجاه مناطق سيطرة الإدارة الذاتية سوى طابع القوة الصلبة، وهي متكيفة مع تلك السياسات، إذ لم تجد أو تسمع من القوة الإقليمية أو الدولية ما يردعها عن تصرّفاتها، ويمكن لأنقرة أن تتعاون مع العرب في وجه طهران، وهو ما سيحمّل الدول العربية مزيدا من الدلال التركي.

العربي الجديد