كل بيت سوري كان ثكنة عسكرية

روماف مشاهدة 1

ماهر راعي

شاعر من سوريا، في رصيده ديوانين شعريين؛ “مرمية هكذا

في الهواء” عن دار أرواد 2014، ” مغطس بالشوكولا” عن دار نينوى بدعم من الصندوق 

670109924847491225

العربي للثقافة والفنون 2019،

 

محتويات
أقرأ أيضاًروماف – ثقافةأيها السائر في دروب الحياة، اسمع نداء القلب والروح، فإنما الحب ليس مجرد لحظات تجملها المظاهر، بل هو عبور عبر بواطن الروح، واكتشاف عمق الذات والآخر. الحب الحقيقي يتجلى في العطاء المتبادل، والتضحية بلا حدود، والوفاء اللا محدود. إنه رحلة نحو تلاحم الأرواح وانسجام القلوب، حيث ينسجم الإثنان كأوتار موسيقية تخلق سمفونية الحياة.فلننظر إلى الحب كأرض خصبة تسمو عليها الأفكار السامية والعواطف النبيلة، حيث يسكن الإيمان والثقة والصدق. لا تكن مجرد مشاهداً لعلاقات مُتحابة، بل كن جزءاً منها وابنِ علاقتك بكل رونق وجمال. هيا، اجتاز حدود الظاهريات وانغمس في عمق التواصل والتفاهم مع من تحب، فالحب ليس مجرد كلمات وأفعال، بل هو همسة من السماء تمتزج بصدق القلب وصفاء النية.فلتتجاوز العيوب والعثرات، ولتكن العطاء والوفاء شعارك في رحلة الحب الأبدية. إنها رحلة تحدي وتضحية، لكن في نهايتها تنتصر الروح النبيلة وتتجاوز حدود الزمان والمكان. فلنصنع من حبنا أسطورة ترويها الأجيال، ولنكتب بأقلام الصدق والصبر قصة حب لا تنتهي.عنب بلدي – رأي في دولة مثقلة بالأزمات الحادة، ينقسم اللبنانيون فيما بينهم حول كل شيء تقريبًا، باستثناء الموقف العنصري من لجوء السوريين في لبنان، وقد نجح الساسة والإعلام في جعل لجوئهم سببًا لكل أزمات لبنان، متجاهلين أن حزبًا مسلحًا مشاركًا في الحكومة، كان وما زال جزءًا من تهجيرهم القسري وقتلهم وهدم منازلهم.تنفذ الحكومة اللبنانية خارطة طريق على عدة مستويات، دبلوماسية وأمنية– سياسية ومالية وقانونية. دبلوماسيًا، تعمل الحكومة اللبنانية مع الحكومة القبرصية على أن يتبنى الاتحاد الأوروبي فكرة “إنشاء مناطق آمنة” في سوريا ليتم ترحيل السوريين والسوريات إليها، أو أن يعتبر الاتحاد معظم المناطق السورية مناطق آمنة لتسهيل إعادة اللاجئين واللاجئات من عدة دول.أمنيًا وسياسيًا، تم تفويض البلديات في معالجة الإقامات والعمل، ومُنحت غطاء سياسيًا للحد من الحريات مثل حرية التنقل تحت ذريعة “الحفاظ على الأمن”، وطلبت وزارة الداخلية منها رفع تقارير دورية كل 15 يومًا لرصد ما فعلته إزاء الوجود السوري، تحت طائلة محاسبة المقصرين منهم.ماليًا، نجح لبنان في الحصول على هبة من الاتحاد الأوروبي بقيمة مليار يورو، تُصرف خلال أربع سنوات بدءًا من هذا العام وحتى 2027، وصفها رئيس الوزراء ميقاتي بأنها غير مشروطة، وحددت مجالات صرفها رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، في محاربة “الهجرة غير الشرعية” ومساعدة اللاجئين والمجتمعات المضيفة، وإصلاحات اقتصادية ومالية ومصرفية.أما قانونيًا فقد تم تعديل قانون الإقامة بعيدًا عن الصخب الإعلامي، وقرر مجلس الوزراء تعديل قانون إقامة ودخول الأجانب بلبنان في 28 من شباط الماضي، ودخل حيز التنفيذ في 26 من آذار الماضي كخطوة حاسمة من أجل ترحيل غالبية السوريين والسوريات، ومن ضمنهم من كانت إقامته قانونية حتى وقت قريب، ودخلوا إليه بشكل نظامي من المعابر الرسمية، فقد ألغيت الإقامة بموجب كفيل لبناني شخصي وسمح فقط للشركات المُسجلة بتقديم الكفالة، وأُوقف العمل بالإقامة بناء على عقار مستأجر للسكن العائلي، واستثنى القانون المعدل السوريين والسوريات من الحصول على إقامة بموجب عمل تطوعي.كما أُوقفت الإقامة الدائمة والسنوية بناء على حساب بنكي، للذين نهبت المصارف أموالهم وحرمتهم من التحكم بها، وبالتالي من سيتم ترحيله لن يستطيع سحب المبلغ الضئيل الذي سمحت به المصارف، ولن يتمكن من تحويله إلى خارج لبنان بسبب انهيار القطاع المصرفي والقيود التي فرضها. أما المبالغ التي أُودعت بعد 2019 والتي أطلقت عليها المصارف “Fresh Money” فلا يمكن للسوريين والسوريات تحويلها إلى خارج لبنان بسبب العقوبات على سوريا، وتواطؤ البنك المركزي في لبنان بتضييق الخناق أكثر عليهم.أما إقامة العمل بالنسبة للسوريين والسوريات في القطاعات الثلاثة المسموح بها، وهي البناء أو الزراعة أو النظافة، فتنقسم إلى أربع فئات بناء على قيمة الراتب، وحُصر جندر المستوى الرابع بالنساء العاملات في الخدمة المنزلية تحديدًا. واستعيض عما ألغي من أنواع الإقامات السابق ذكرها أعلاه، بإقامة سنوية دائمة عبر كفالة نقدية تودع في صندوق الخزينة اللبنانية نقدًا أو بموجب شيك مصرفي نقدي لدى وزارة المالية بقيمة مليار وخمسمئة مليون ليرة لبنانية (أي ما يعادل 16760 دولارًا أمريكيًا)، كما يحق لمن يريد الإقامة بموجب عقد إيجار سكن أو ملكية عقار أن يتعهد بعدم العمل في لبنان، ويبرز إيصالات بنكية تفيد بأنه تلقى مبلغًا شهريًا من خارج لبنان بقيمة  2000دولار لمدة 6 أشهر تسبق تاريخ التقديم على الإقامة، وهي شروط تعجيزية وطبقية بامتياز.وفي 8 من أيار الحالي، وبعد أن أصبح، وسيصبح، وجود غالبية السوريين والسوريات مخالفًا للقانون بسبب تعديل قانون الإقامة، صدر بيان عن المديرية العامة للأمن العام يطلب من “السوريين المخالفين لنظام الدخول والإقامة، التوجه مباشرة إلى الدوائر والمراكز الحدودية لمنحهم التسهيلات اللازمة لتسوية أوضاعهم ومغادرة الأراضي اللبنانية، تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بحق غير المغادرين”، وهي الحبس من شهر إلى ستة أشهر (حسب المادة 34) من قانون تنظيم الدخول إلى لبنان والإقامة فيه والخروج منه الصادر في 10 من تموز 1962، و”التشديد على المواطنين اللبنانيين عدم تشغيل أو إيواء أو تأمين سكن لسوريين مقيمين بطريقة غير شرعية في لبنان، تحت طائلة تنظيم محاضر ضبط إدارية وعدلية بحق المخالفين”، و”إقفال جميع المؤسسات والمحال المخالفة التي يديرها أو يستثمرها سوريون، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق كل من يستخدم عمالًا أجانب خلافًا لنظام الإقامة وقانون العمل”. وبالطبع الاستمرار بالترحيل القسري دون التنسيق مع مفوضية اللاجئين لدراسة ملفات الأفراد، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، والخطورة التي تسببها إعادتهم بهذه الطريقة والتي ستنعكس على حيواتهم وحريتهم وأمنهم دون موافقتهم الطوعية.انعكست حملات العنف الجماعية المكثفة والفاشية التي طالت عموم السوريين والسوريات مؤخرًا، وتعديل قوانين الإقامة بزيادة الطلب على جوازات السفر، فخلال بداية الأسبوع الثاني من هذا الشهر، وصل دور حجز موعد بالسفارة السورية في لبنان للحصول على جواز سفر أو تجديده إلى بداية شهر أيلول المقبل، رغم أنه يصنف كأضعف جواز سفر في العالم، لضيق خيارات التنقل المتاحة أمام حامليه.عمليًا، تحت وطأة الممارسات اللاإنسانية والعقاب الجماعي وحملات الفاشية وخطاب الكراهية ضد السوريين والسوريات، ثمة مصير مجهول ينتظرهم، وخسائر مادية ومعنوية ونفسية لا يتصورها إلا من يقبع تحت هذا الضغط الشديد، وقضية لجوء يراد حلها بالوسائل الأمنية بينما هي قضية حقوقية وإنسانية وسياسية.روماف – ثقافةلم يعد هناك مكان واحد يجمع السوريين“حين تركت الشام، شعرت أنّ روحي انشلعت” هذا ما تقوله لويز عبد الكريم التي ترفض أن تُعرّف نفسها كممثلة اليوم، ومع ذلك هي لا تفكر بالعودة إلى البلد، لأنّ “سوريا التي في رأسي لم تعدْ سوريا ذاتها اليوم. لم تعدْ موجودة، حتى الأصدقاء تناثروا وتشتّتوا، لم يعدْ هناك مكان واحد يجمع السوريين”. لكن هذا اليأس الذي يخيّم في روحها، لا يمنعها من العمل والحفر في تراب المنفى، لأنّ “لديّ ما أتشاركه مع الآخر”.تربطني بلويز عبد الكريم، علاقة قديمة نسبياً، بدأتْ إثرَ قيام الحراك السوري، حيث تعرّفت عليها بدايةً في قطر، خلال مهرجان ثقافي وأدبي خاص بالسوريين، ثمّ التقينا في القاهرة، ثمّ جمعتنا باريس، وأخيراً التقينا مطوّلاً في مدينة ليون في فرنسا، ومن هذا اللقاء انبثقت فكرة محاورتها.أجريتُ هذا الحوار مع لويز منذ أكثر من شهر، ولا أزال حتى اللحظة أشعرُ بعدمِ الرضا عن المادة التي قمت بتدوينها بعد أحاديثٍ متكرّرة بيني وبينها، والسبب الأساسي لعدم رضاي، هو الصورة التي أرى عليها لويز، كممثلةٍ وفنانةٍ، والصورة التي تراها هي عن نفسها، والمختلفة تماماً عن صورتي عنها. من هنا، ولأنّني أحبّ لويز كممثلةٍ، وكإنسانةٍ صادقةٍ إلى درجةِ القسوة والذهاب بالأشياء إلى نهايتها، فإنّني غير قادرة، ولا أقبل، ولا هي تقبل، بتزيين صورة حياة الفنانة لويز عبد الكريم، حياتها التي حطمها الذهاب إلى الغرب.أزمة اللا تمثيل وفقدان الهُويّة الفنية لتوضيحِ الصورةِ أكثر، تذكرتُ وأنا أحاور لويز، الممثلة مريم فخر الدين، بكلِّ عنفوانها وصراحتها وقسوتها، وهي تتحدّث عن فنّاني وفنّانات جيلها، وتنتقدهم دون رحمةٍ، وكنتُ شخصياً معجبةً بشفافيةِ مريم فخر الدين، هذا الصوت النادر، الذي يقول الأشياء كما هي دون تزيين أو مواربة. من هنا، أعتبر هذه المادة من أصعب المواد التي كتبتها، لأنّني أكتب عن شخصٍ أحبّه، بطريقةٍ تمنعني من التعبير عن هذا الحبِّ، لأنّ صدق هذا الشخص، أسمى من العواطف بيننا.بدأتُ السجال مع صديقتي الفنانة، منذ اللحظة الأولى للحوار، وأنا أتوّجه إليها بالسؤال حول مكانها كفنانةٍ سورية تعيش في فرنسا، لتعترضَ لويز قائلة: أنا لست فنانة، لماذا تقدّمينني هكذا؟ـ أنتِ ممثلة.قلتُ لها، فأجابتْ:ـ أنا لستُ ممثلة. لم أعدْ ممثلة منذ وقتٍ طويل، أنا مُتوّقفة عن التمثيل منذ ١٣ سنة. اليوم حين أقدّم نفسي للفرنسيين، أتحدّث عن لويز أخرى، لويز التي تعيش في فرنسا، ليست الممثلة التي تتحدّثين عنها. لم أعدْ أعمل بمهنتي كممثلة.  لهذا لا أقبل تعريفي اليوم كممثلة.بشخصيتها الغاضبة راحت لويز تعبّر عن مكانتها لدى الشارع السوري قبل الثورة: نحن لم نكنْ معروفين لدى الجمهور السوري، لم نكن من فنّاني الصفِّ الأوّل، وحين وقفنا مع الحراك الثوري، اتُهمنا بأنّنا طالبوا شهرة.تصمتْ قليلاً، ثم تنفجر غاضبةً من جديد: أنا لاشيء اليوم. هناك في رأسي الكثير من الأفكار التي أحاول ترجمتها من رأسي على الورق، لكنّني لا أستطيع، لأنّني لست كاتبة. كنتُ كممثلةٍ أشتغل على نصٍّ مكتوب، لكنني اليوم لم أعدْ أعمل، لهذا حاولت أن أكتب، لأتخيّل نفسي مجدّداً في التمثيل، إلّا أنّني فشلت، هناك مسافة بين تخيّل النص وبين كتابته وبين التمثيل، أنا أقف في الخطوة الأولى والثالثة، لكنّني لا أعرف المنتصف، أنا لا أستطيع أن أكتب ما أفكر به… المشكلة أنّني لا أجيد فعل أيّ شيء آخر سوى التمثيل. هذه كانت حياتي: التمثيل. لهذا حياتي اليوم لم تعدْ موجودة.تدريب الأطفال وورشات المسرحتُحدّثني لويز عن تجربتِها لتدريبِ الأطفال على التمثيل في المخيّمات، في لبنان وتركيا، تقول: “لديّ مخزون من العبارات التي أستطيع استخدامها مع الأطفال من جميع الأعمار، وفي جميع الظروف، وقد استمتعت كثيراً بالعمل مع الأطفال في المخيّمات، إلّا أنّني حين جئتُ لتطبيق تجربتي في فرنسا، لم أنجحْ، لأنّ مخزوني اللغوي مختلف، ووجدتني عاجزة عن استخدامِ لغة مع الطفل الفرنسي لتطمينه، فبدا الأمر معكوساً، إذ أبدو وأنا أشرح له فكرة ما، كأنّني أوبّخه، لأنّني كنتُ أشدّدُ على اللفظ، لأنطق المفردات بطريقةٍ مفهومة، فتحوّل الأمر إلى نشاطٍ مختلف عن هدفه، وصار بعض الأطفال يتنمّرون عليّ، رغم أنّني كنت أتقبّل ذلك منهم بروحٍ رياضية، لكنّني كنت أشعر بمزيدٍ من العزلة، لأنّني عاجزة عن أداء الأدوار والمهام التي تعلّمتها في حياتي باللغة العربية. طبعاً، يصعب توضيح هذا لأطفالٍ صغار اعتادوا وتربّوا في بيئةٍ لغويةٍ مختلفة. هذا يجعلني أشعر بالغضب، وبالحواجزِ أمام ممارستي لمهنتي الأصلية هنا، كممثلةٍ، أو مدرّبةٍ على التمثيل، أو مديرة ورشات مسرح، باللغة الفرنسية.تشرحْ لويز علاقتها بالغضب في فرنسا، فتقول: أحبُّ غضبي، لأنّه تعبير عن حالةِ الرفض التي في داخلي، لكنّني اكتشفت أنّني صرت في فرنسا أشعر بالخجل أيضاً، وهذا أمر كنتُ أشعر به قليلًا في سوريا أثناء مرحلة المراهقة، وفي بداياتي الفنّية، لكنّه تضخم في فرنسا.لكن رغم كلّ هذا الغضب، فإنّ لويز تعمل في مهنةٍ لم تمارسها من قبل، وهي تربية الأطفال، وتقول بأنّها تشعرُ بمتعةٍ كبيرة مع الأطفال، وتشتاق إليهم حين تتركهم، وتبرّر هذا: أنا وحيدة. الأولاد يملؤون نقصاً موجوداً في داخلي، هناك تعلّق لافت ومختلف، شيء له علاقة بالأمومة. أكيد لن يحبّني الأطفال مثل أمهم، لكن ثمّة تعلّق ممتع لاحظه، ودائماً، المسؤول في العمل الذي يكرّر لي: الأطفال يحبّونك كثيراً.عودة إلى البداية: لماذا غادرت؟ كان عليّ التوّقف عند المحطة قبل المغادرة، فسألتُ لويز: أنت في فرنسا بسبب موقفك من الثورة. حدثيني عن دورك في الحراك الذي أدى بك لتركِ البلد، وبالتالي عيش هذه الأزمات في المنفى.تقول: لم أكنْ مقموعة في سوريا، لقد تمرّدت على عائلتي، رغم الحرية الكبيرة التي منحني إياها أبي، تمردت حتى على تلك الحرية، لم أكن أفعل إلّا ما في رأسي أنا، وكان يُقال عنّي عنيدة و”رأسي يابس”. كان أبي يقول، كلّما التقى بشخصٍ أُقبِلْ على مشروعِ ارتباطٍ معه: الله يعينك. من شدّة عنادي وتشبّثي برأيي.لكن موضوع الظلم والتمسّك بالعدالة والحق، أمور محسومة بالنسبة لي، أنا ضدّ الظلم. لم أكن أتابع كثيراً، لكنّي أذكر حين اتصل بي أبي، وكان يطير من الفرح: شو ماعم تشوفي الأخبار؟ عقبالنا، شوفي شو عم يصير في تونس.. ثم بعد فترة، اتصل بي أبي أيضاً: بابا، وصلت لعندنا…انخرطت لويز في الحراك، مؤكدةً أنّها كانت تمتلك هامشاً مختلفاً من الحريّة، فهي تعمل في الإذاعة، وتستطيع الكلام. تقول: في الداخل المساحة اللي كانت لي أكثر من غيري، لأنّني أعمل في الفن ولديّ منبر، أستطيع الكلام ولو بشكلٍ موارب. ثمّة هامش من الحرية عند الفنان غير مُتاح لغيره.ثم تُضيف ساردةً لي عن اليوم الذي أحسّت فيه بالخوف والتهديد، فاضطرتْ إلى الهروب من مواجهة التعرّض للعنف: بعد مؤتمر سميراميس قلت على الهواء: “الإعلام السوري كاذب”. لم أكن أعرف أنّهم يصوِّرونني… “القوات السورية في درعا هي التي تحاصر البلد، وليس هناك عصابات كما يقول الإعلام”. قلتُ هذا الكلام، وهذا ما أقصده بهامشٍ ما من الحرية. لكنّني لمّا غادرت المؤتمر شعرت بالخوف، كان هناك أشخاص يحملون الهراوات أمام الفندق، فهربت من أحد الأبواب الخلفية. بدأت بعدها المُساءلات الأمنية، وتمّ اعتقال أبي أيضاً، بسبب مشاركته في المظاهرات. وخرجت في المظاهرات في قطنا. كنت خائفة بشدّة، ومع ذلك، وأنا بين البنات، صرخت فجأة: عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد.. صرت أسمع صوتي أعلى من صوتِ المظاهرة، شعرت أنّني صرت عالية وكبيرة.. لم أتخيّل يوماً أن أنطق بهذه العبارة في الشارع.تتابع قائلة: عرفت لاحقاً أنّ هناك كاميرات على الأسطحة تراقب المتظاهرين، وأنا معروفة قي قطنا، بنت أبو أوس، الممثلة. غادرت المظاهرة وأنا خائفة وقلبي بين قدميّ… كنت أسمع صوت قلبي من الخوف… أقود سيارتي وأنظر في المرايا إذا كان ثمّة من يلاحقني. بعدها جاءت مظاهرة القابون، وهذا بالنسبة لي كان أهم يوم في الشام. كانت القابون مُدجّجة بالسلاح، وأنا أدور بسيارتي محاولةً العثور على مكانٍ لأدخل منه صوب التظاهرة. ثم خرجنا في مظاهرةِ الميدان، لكن بشكلٍ سريع، حيث خرجت مع مجموعةِ صبايا، بينهن ممثلات معروفات. رغم هامش الحرية الذي أمتلكه، ورغم جرأتي، كنتُ خائفة، كانت المظاهرات مصوّرة وكانت وجوهنا واضحةً ومكشوفةً، وبدأتُ أشعر بالخطر، فقرّرت الهروب خوفًا من الاعتقال.العزلة الفرنسية من الأسبابِ الأكثر صعوبة لتقبّل موضوع المنفى، أنّ لويز متعلّقة كثيراً بدمشق التي تدعوها “الشام”، وتقول: روحي في الشام، والشام روحي. لم يكن لديّ حلم السفر أبداً. حتى حين كنت أسافر لضرورةِ العمل، كنت سرعان ما أشعر بالملل والشوق والرغبة في العودة إلى دمشق. لهذا حين تركت الشام، شعرت أنّ روحي انشلعت، ولم أتمكن من ترميم أيّ شيء في داخلي، ولا بناء أيّ مكان يشبه الشام. وتضيف: ما زاد من قسوة خروجي من سوريا، هو الابتعاد عن الأصدقاء، حيث وجدت نفسي في فرنسا، في مدينة بورج الساحرة، والتي تبدو كأنّها لوحات أو مشاهد من السينما، لكن رغم هذا لم أستمتع بجمالها، فقد عشت فيها سنة كاملة دون أن أقول لأحد فيها “بونجور”، كان لديّ صديق واحد فقط، بولوني، أجنبي مثلي، تعرّفت عليه قبل شهرين من مغادرتي للمدينة.مع العزلة، وعدم التواصل مع الآخرين وصعوبةِ اللغة، وتعقيد الوضع المالي، تسبّب ذلك في تغيير جذري في حياة لويز ووضعها النفسي، حيث بدأ شكلها يتغيّر وصار وزنها يزداد، وصارت لديها مشاكل صحية. تقول: مع الوحدة وعدم استيعاب أنّني لم أعد أرى أهلي، أحسست أنّني منفية تماماً ووحيدة.لكنها فرنسا، أقول لها، ويجب أن لا نظلم هذا البلد، بالتأكيد هناك جانب جميل في هذا المنفى. ألم تعطك فرنسا أيّ شيء؟ تُجيبني: أشعر في فرنسا أنّني مسجونة، الحرية التي عشتها في دمشق حصلت عليها بجهدي، بنيتها وحقّقتها خطوةً خطوةً، وكنت قادرة على التصرّف مهما كان الظرف صعبًا عليّ، كوني كنت ممثلة وضمن الهامش الذي كنت أتحرّك ضمنه، وأعبّر عن نفسي. لم أكن جريئة جدّاً لأنّ الخوف من النظام كان قد سيطر علي. بينما هنا في فرنسا، شعرت أنّ لكلًّ تصرّفٍ مهما كان صغيراً ثمنه، وصادف هذا في فترة أحداث شارلي إيبدو، لم أجدْ مكاني في الوسط السوري الذي وجدتني محاطةً به هنا في فرنسا لأنّني لادينية، والفرنسيون أيضاً كانوا يجدون في أفكاري مغالاة لا تنسجم مع آرائهم النمطية عنّا. لقد خرجتُ في مظاهرةِ التضامن مع شارلي إيبدو، لكن النظرات كانت غريبة، كأنّهم يقولون: أنتم الأجانب! خاصة في هذه المدينة (بورج)، جميع سكانها فرنسيون، وكان الأجنبي سهل التمييز من بين السكان الأصليين للمدينة. كنت أنا وأختي وصبية ثالثة قادمة من دمشق، فقط نحن الأجانب الوحيدون في المظاهرة. أنا امرأة ملتزمة بقضايا الحريات، لهذا خرجت في هذه المظاهرة، لأدين الاعتداء على حرية الرأي. الالتزام بالنسبة لي هو فعل بمعنى أنّني  ألتزم أو أندمج بأفكاري ومبادئي، وهذا بالنسبة لي فعل يومي وليس مجرّد فكرة تُسجن في الرأس.في سوريا، رغم القتل الممنهج الذي قام به النظام، لكنّني لم أكن أشعر بالوحدة، كنتُ مُحاطة بأهلي وأصدقائي، بينما هنا أنا وحيدة تماماً. لقد تلقيت كلَّ هذه الآلام في فرنسا وحدي دون شراكة صديق أو أحد أتحدّث معه عمّا أشعر به وأعيشه. وبعد خروجي من سوريا خاصة، تضاءلت كمية تواصلي مع الناس الموجودين في الداخل، خوفاً على أمنهم. كان صوتي عالياً في تلك الفترة، وكنت أتحدّث وأكتب وأعلن غضبي من النظام، لهذا فإنّني كنت أشكّل خطراً على معارفي في سوريا.النشاطات الحالية، عملها الأخير في يوم المرأة العالميبمناسبة عيد المرأة العالمي لهذا العام، شاركت لويز مع مجموعة نساء في تقديم مسرحية “البطلات”، حيث البطلات الوحيدات للعرض هنّ النساء، كما اشتغلت كثيراً في ورشات مسرحية لتدريب النساء، اللاجئات خاصة، والرجال أيضاً، على التمثيل. تتحدّث لويز عن متعتها في العمل في هذه الورشات: تسحرني فكرة العمل الجماعي. هناك اشتغال يومي، تحت إدارةِ شخص واحد، لهذا نتقاسم نحن المشاركين المتعة ذاتها، سواء كنت أنا من أدير الورشة أو إذا كنت تحت إدارةِ أحد غيري. أحبّ فكرة التشاركية، هناك متعة كبيرة في العمل المشترك، هذا يعني أنّ لديّ ما أتشاركه مع الآخر: الخبرة، الألم، كيف تجاوزت الألم… هناك إحساس بالتعافي النفسي عبر المسرح، أنا أؤمن بالفن كعلاجٍ روحي.حول التفكير في العودةنعم، طيلة الوقت أفكر في هذا. لكن لا أستطيع. مشكلتي ليست مع النظام، لقد حصلت أشياء أخرى، صار لدينا تجار حروب وإفقار للشعب، أنا أخاف من شبيحة كلّ الأطراف. أنا جبانة، وتركت البلد لأنّني كنت خائفة، لهذا لا أستطيع أن أعود حتى بعد سقوط النظام. سوريا التي في رأسي لم تعدْ سوريا ذاتها اليوم. لم تعدْ موجودة، حتى الأصدقاء تناثروا وتشتّتوا، لم يعدْ هناك مكان واحد يجمع السوريين، صارت علاقاتنا افتراضية الآن… حتى في الفن، يتم الاتفاق عبر الانترنت، ثم تأتي الموافقة للإقامة والعمل. صار من الصعب أن نلتقي حتى نفكر معاً، ونخطّط للعمل، ونعمل على مشروعنا الفنّي. حالة بناء العمل واللقاءات المشتركة صارت صعبة.يطول الحديث مع لويز الممتلئة بالأفكار والمشاريع للعمل، ولكن مع الكثير من الإحباطات، لأنّها تزرع في أرضٍ جديدة، عليها أن تبدأ في كلِّ مرّة فيها، كأنّها بطلة من أبطال الأساطير، ككثيرٍ من السوريين، كأنّها سيزيف، تأخذ الصخرة المتدحرجة، وتعود للصعود بها إلى قمّة الجبل.آلاء جسانين 

 

 

 

إحدى صدماتي الكبرى، والمتأخّرة نوعاً ما، كانت عندما رأيت بأم عيني أحد الأولاد يلعب البلياردو، بينما كان الخصم والده.

هذا المشهد صادفته في أحد المنتجعات البحرية، كنت وقتها من بين عمّاله الموسميين. كانا يتحديان بعضهما بطريقة حلوة، فثمة ضربات لا يقوى الصغير على تنفيذها ليقوم الأب بمساعدته، تماماً مثلما تمسك الأم يد صغيرها في واجبه المدرسي الأول، عندما تظهر له معجزة كتابة الهمزة في حرف الألف.

تابعت مشهد الأب والابن حتى النهاية، حيث فاز الصغير بفارق كرة واحدة وبضربة كانت من تنفيذ الأب. استندت إلى طاولة قريبة أراقب مشيتهما حين غادرا المكان، تاركين ضحكات لذيذة وملونة لازالت تقفز مع الكرات على طاولة اللعب.

دمعت عيناي! لم يكن هناك وقت لأتأمل الموقف بدقة أكبر وأجيب نفسي لماذا بكيت؟! كان عليّ أن أسرع لإيصال الطلب إلى طاولة زبون ملحّ وكريه… كنا نكره الزبائن، حتى اللطفاء منهم، لأمر لا يفهمه أحد.

ثمة استراحات مسروقة يمكنك فيها أن تمرّر الوقت بطريقتك، لك مثلاً أن تقضم بعض الحلويات المرتجعة من صحون زبائن غادروا للتو، يدهشك أنهم لم يلمسوا حلوياتهم الشهية، تلك التي دفعوا ثمنها رقماً يكاد يساوي نصف مرتّبك تماماً. تراقب زبونة حلوة تضحك مع حبيبها، ربما حبيبها، أو تراقب بدقة، مثل قنّاص متمرّس، متى ستنحسر بلوزتها قليلاً كلما تحركت مع الضحكة، لينكشف جزء أوسع من نهديها العارمين، أنت في زاوية معتمة تحبس أنفاسك بينما هي وحبيبها في الضوء والصخب والفرح يضحكان. في تلك الاستراحة المسروقة، ليلة لعبة البلياردو وفوز الصغير على والده المبتسم، كانت صدمتي كبيرة، فالآباء وبكل طبيعية يشاركون أطفالهم ألعاباً محرّمة!

 كانت الحياة ثلاث كلمات فقط: أكل، نوم ودراسة. ليس في قاموس الأهل كلمة ترفيه، سوى حضور ساعة كانت مخصصة لأفلام الكرتون عند الظهيرة، زيارة الأقارب في القرية يوم العطلة ومن ثمّ زيارة أضرحة الأولياء الصالحين التي تعشقهم أمي

تذكرت كيف كنا ندخل ونخرج من صالة البلياردو المعتمة، في قبو رطب ونتن في حيّنا، عندما كنا في المرحلة الابتدائية في الثمانينيات من سوريا، الضيّقة على كل شيء، كان الأمر أشبه بالتسلّل إلى وكر عصابة، أو الدخول إلى بيت دعارة. كنا نعود إلى بيوتنا ملوثين بالذنب والخطيئة، لكننا فرحون بانتصار وحيد، لا يخص المنافسة على الكرة السوداء في ضربة مدهشة، حيث تتدحرج نحو حفرتها الأخيرة لتحسم الفوز… كان انتصارنا الوحيد الذي نعوّل عليه ببساطة: ألا يلمحنا أحد من الأهل أو الجيران بينما نخرج من وكر المتعة والرذيلة.

سرقتُ قلم ديمة، زميلتي في الصف السادس. يومها أعطاني أبي ثمن قلم جديد أظن أنه يكفي ليكون أجر وقت أطول في الصالة، في اليوم التالي سُرق القلم من حقيبتي، لا أحد في الكون يستطيع اكتشاف السارق لكنك تستطيع التخمين، إنه شخص يشبهك تماماً، اليوم في الصالة سيُغدق على رفاقه، ويدعوهم ليلعبوا “game” إضافي على غير العادة.

 كانت الحياة ثلاث كلمات فقط: أكل، نوم ودراسة. ليس في قاموس الأهل كلمة ترفيه، سوى حضور ساعة كانت مخصصة لأفلام الكرتون عند الظهيرة، زيارة الأقارب في القرية يوم العطلة ومن ثمّ زيارة أضرحة الأولياء الصالحين التي تعشقهم أمي، أولئك الذين، ولفترة طويلة، كنت أعتقد أنهم أعلى شأناً ومقدرة من الله نفسه.

لماذا لم يلعب أبي مع أولاده؟ فلنفترض جدلاً أنه يعتبر أن أية لعبة تحتاج المال هي مضيعة للوقت والمال معاً، وهي مجرد عملية نصب يقوم بها صاحب الصالة على أولاد الحي، ماذا عن باقي الألعاب المجانية، الألعاب المنزلية البسيطة؟!

مقالات ذات صلة

 

لماذا لم يكن الآباء في حيّنا يلعبون مع أولادهم، هل كان العمل يرهقهم إلى هذا الحد؟ هل كان الفقر يجعلهم في أوقات فراغهم مجرد آلات مطفأة أو معطلة، ساهمين في دخان سجائرهم وفي خبز اليوم التالي؟ هل كانت ثقافة التربية آنذاك تمنعهم من مشاركة أولادهم اللعب، خوف كسر الحواجز وحفر الأولاد لصخرة الأبوة القاسية، تلك الصلابة التي كانوا يفترضون أنها كفيلة بصنع رجال المستقبل الصعب؟

نعم في تلك الأوقات المعتمة من سوريا الضيّقة على كل شيء، علّمتهم الأحزاب النضالية بأنواعها، ذات الرايات التي لا تخلو من لون الدم، والشعارات التي تحمل قبضات مضمومة وغاضبة وسلاسل مخلوعة، الأحزاب الطامحة إلى مشهد الانقلاب الدائم، استلام زمام السلطة ومسك ميكروفون إذاعة البلد من أجل البيان الأول، علمتهم أن لا شيء يأتي بسهولة، بل كل شيء يحتاج إلى قوة (شكيمة) – كانت تعجبهم هذه المفردة- والنضال الذي لا يرتاح أبداً، وأن الخشونة تحتاج إلى تربية وبناء وصناعة ولا يمكن الاستغناء عنها. علمتهم الأحزاب النضالية كل هذا، رغم أنهم يوماً لم يكونوا إلا ورقها المحروق. لم يكن المجتمع السوري حين كنا صغاراً إلا ثكنة ممتدة كبرنا فيها. كل بيت كان ثكنة، كل أب كان عسكرياً، وإن كان نجاراً أو سماناً أو يعمل في أي مهنة كانت، حتى ثياب النوم كانت موحّدة، بأحجام مختلفة.

علمتهم الأحزاب النضالية والعسكرة أن الترفيه يجب اجتثاثه، ولا مكان هنا إلا للجدية والصرامة والنضال، وأن الألوان موجة إمبريالية مفسدة للروح الوطنية، وأن الكاكي، أو القاتم بالعموم، هو سيد الألوان

علمتهم الأحزاب النضالية والعسكرة أن الترفيه يجب اجتثاثه، ولا مكان هنا إلا للجدية والصرامة والنضال، وأن الألوان موجة إمبريالية مفسدة للروح الوطنية، وأن الكاكي، أو القاتم بالعموم، هو سيد الألوان. 

انقلب رفيقي في العمل على ظهره من الضحك وظنني مخبولاً، حين رددت بكل جدية: “كنت بالمدرسة”، على سؤاله: “وين كنت من شي نص ساعة، عم يسأل عنك الميتر وفي ألف زبون بالصالة؟”.

لم يكن من السهل أن أشرح له أنني حين رددت عليه بجملة “كنت بالمدرسة” بينما أرتجف، أنني حينها كنت ساهياً، أجيب أبي على سؤاله الذي كرّره ألف مرة في جلسة تحقيق قديمة وطويلة، عقب معرفته مصادفة من عصفور قذر وواشٍ، أنني كنت في صالة البلياردو.

المصدر : رصيف 22

أقرأ أيضاً

  • قال لي

    روماف – ثقافة

    قال لي :

    ‏أنتِ تنتمي للقلق .. للزُرقـة الهادئة التي تفيض من الحزن

    ‏ وللنجوم التائهة في إتساع عينيك !

    قلت له :

    إن دمعة الله على جرحي لا يجف منها الغفران ..

    لقد كنت جنة الله في قلبي فمن أين يأتيك الزوال ..؟!

    ربما ترحل وأبقى أنجب منك الكلمات التي رافقت أجمل لحظاتنا…

    أما الآن وقد بدأ الصباح :

    ‏صباح الخير يا حبّة قلبي..

    ‏صباح أشواقي إليكَ التي لا يقطعها طريق.. ومشاعري التي لا تقيسها الكيلومترات الطويلة.

    لقد ‏كان الوصول إليك شاق.. والعودة منك مُرعبة ..

    ربما آن الوداع فلم تكن على قدر قلبي ..

    أتعلم كيف يطعن القلب…؟!

    حين يسكن مكاناً ظنه وطن وإذ به خيمة لجوء …

    حين تقرأ كلماتي قلبي يكون قد ووريّ الثرى فلا تبحث عنه …!

  • بوح الأرواح….

    روماف – ثقافة

    أيها السائر في دروب الحياة، اسمع نداء القلب والروح، فإنما الحب ليس مجرد لحظات تجملها المظاهر، بل هو عبور عبر بواطن الروح، واكتشاف عمق الذات والآخر. الحب الحقيقي يتجلى في العطاء المتبادل، والتضحية بلا حدود، والوفاء اللا محدود. إنه رحلة نحو تلاحم الأرواح وانسجام القلوب، حيث ينسجم الإثنان كأوتار موسيقية تخلق سمفونية الحياة.

    فلننظر إلى الحب كأرض خصبة تسمو عليها الأفكار السامية والعواطف النبيلة، حيث يسكن الإيمان والثقة والصدق. لا تكن مجرد مشاهداً لعلاقات مُتحابة، بل كن جزءاً منها وابنِ علاقتك بكل رونق وجمال. هيا، اجتاز حدود الظاهريات وانغمس في عمق التواصل والتفاهم مع من تحب، فالحب ليس مجرد كلمات وأفعال، بل هو همسة من السماء تمتزج بصدق القلب وصفاء النية.

    فلتتجاوز العيوب والعثرات، ولتكن العطاء والوفاء شعارك في رحلة الحب الأبدية. إنها رحلة تحدي وتضحية، لكن في نهايتها تنتصر الروح النبيلة وتتجاوز حدود الزمان والمكان. فلنصنع من حبنا أسطورة ترويها الأجيال، ولنكتب بأقلام الصدق والصبر قصة حب لا تنتهي.

       
  • خارطة طريق لترحيل السوريين من لبنان

    عنب بلدي – رأي 

    في دولة مثقلة بالأزمات الحادة، ينقسم اللبنانيون فيما بينهم حول كل شيء تقريبًا، باستثناء الموقف العنصري من لجوء السوريين في لبنان، وقد نجح الساسة والإعلام في جعل لجوئهم سببًا لكل أزمات لبنان، متجاهلين أن حزبًا مسلحًا مشاركًا في الحكومة، كان وما زال جزءًا من تهجيرهم القسري وقتلهم وهدم منازلهم.

    تنفذ الحكومة اللبنانية خارطة طريق على عدة مستويات، دبلوماسية وأمنية– سياسية ومالية وقانونية. دبلوماسيًا، تعمل الحكومة اللبنانية مع الحكومة القبرصية على أن يتبنى الاتحاد الأوروبي فكرة “إنشاء مناطق آمنة” في سوريا ليتم ترحيل السوريين والسوريات إليها، أو أن يعتبر الاتحاد معظم المناطق السورية مناطق آمنة لتسهيل إعادة اللاجئين واللاجئات من عدة دول.

    أمنيًا وسياسيًا، تم تفويض البلديات في معالجة الإقامات والعمل، ومُنحت غطاء سياسيًا للحد من الحريات مثل حرية التنقل تحت ذريعة “الحفاظ على الأمن”، وطلبت وزارة الداخلية منها رفع تقارير دورية كل 15 يومًا لرصد ما فعلته إزاء الوجود السوري، تحت طائلة محاسبة المقصرين منهم.

    ماليًا، نجح لبنان في الحصول على هبة من الاتحاد الأوروبي بقيمة مليار يورو، تُصرف خلال أربع سنوات بدءًا من هذا العام وحتى 2027، وصفها رئيس الوزراء ميقاتي بأنها غير مشروطة، وحددت مجالات صرفها رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، في محاربة “الهجرة غير الشرعية” ومساعدة اللاجئين والمجتمعات المضيفة، وإصلاحات اقتصادية ومالية ومصرفية.

    أما قانونيًا فقد تم تعديل قانون الإقامة بعيدًا عن الصخب الإعلامي، وقرر مجلس الوزراء تعديل قانون إقامة ودخول الأجانب بلبنان في 28 من شباط الماضي، ودخل حيز التنفيذ في 26 من آذار الماضي كخطوة حاسمة من أجل ترحيل غالبية السوريين والسوريات، ومن ضمنهم من كانت إقامته قانونية حتى وقت قريب، ودخلوا إليه بشكل نظامي من المعابر الرسمية، فقد ألغيت الإقامة بموجب كفيل لبناني شخصي وسمح فقط للشركات المُسجلة بتقديم الكفالة، وأُوقف العمل بالإقامة بناء على عقار مستأجر للسكن العائلي، واستثنى القانون المعدل السوريين والسوريات من الحصول على إقامة بموجب عمل تطوعي.

    كما أُوقفت الإقامة الدائمة والسنوية بناء على حساب بنكي، للذين نهبت المصارف أموالهم وحرمتهم من التحكم بها، وبالتالي من سيتم ترحيله لن يستطيع سحب المبلغ الضئيل الذي سمحت به المصارف، ولن يتمكن من تحويله إلى خارج لبنان بسبب انهيار القطاع المصرفي والقيود التي فرضها. أما المبالغ التي أُودعت بعد 2019 والتي أطلقت عليها المصارف “Fresh Money” فلا يمكن للسوريين والسوريات تحويلها إلى خارج لبنان بسبب العقوبات على سوريا، وتواطؤ البنك المركزي في لبنان بتضييق الخناق أكثر عليهم.

    أما إقامة العمل بالنسبة للسوريين والسوريات في القطاعات الثلاثة المسموح بها، وهي البناء أو الزراعة أو النظافة، فتنقسم إلى أربع فئات بناء على قيمة الراتب، وحُصر جندر المستوى الرابع بالنساء العاملات في الخدمة المنزلية تحديدًا. واستعيض عما ألغي من أنواع الإقامات السابق ذكرها أعلاه، بإقامة سنوية دائمة عبر كفالة نقدية تودع في صندوق الخزينة اللبنانية نقدًا أو بموجب شيك مصرفي نقدي لدى وزارة المالية بقيمة مليار وخمسمئة مليون ليرة لبنانية (أي ما يعادل 16760 دولارًا أمريكيًا)، كما يحق لمن يريد الإقامة بموجب عقد إيجار سكن أو ملكية عقار أن يتعهد بعدم العمل في لبنان، ويبرز إيصالات بنكية تفيد بأنه تلقى مبلغًا شهريًا من خارج لبنان بقيمة  2000دولار لمدة 6 أشهر تسبق تاريخ التقديم على الإقامة، وهي شروط تعجيزية وطبقية بامتياز.

    وفي 8 من أيار الحالي، وبعد أن أصبح، وسيصبح، وجود غالبية السوريين والسوريات مخالفًا للقانون بسبب تعديل قانون الإقامة، صدر بيان عن المديرية العامة للأمن العام يطلب من “السوريين المخالفين لنظام الدخول والإقامة، التوجه مباشرة إلى الدوائر والمراكز الحدودية لمنحهم التسهيلات اللازمة لتسوية أوضاعهم ومغادرة الأراضي اللبنانية، تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بحق غير المغادرين”، وهي الحبس من شهر إلى ستة أشهر (حسب المادة 34) من قانون تنظيم الدخول إلى لبنان والإقامة فيه والخروج منه الصادر في 10 من تموز 1962، و”التشديد على المواطنين اللبنانيين عدم تشغيل أو إيواء أو تأمين سكن لسوريين مقيمين بطريقة غير شرعية في لبنان، تحت طائلة تنظيم محاضر ضبط إدارية وعدلية بحق المخالفين”، و”إقفال جميع المؤسسات والمحال المخالفة التي يديرها أو يستثمرها سوريون، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق كل من يستخدم عمالًا أجانب خلافًا لنظام الإقامة وقانون العمل”. وبالطبع الاستمرار بالترحيل القسري دون التنسيق مع مفوضية اللاجئين لدراسة ملفات الأفراد، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، والخطورة التي تسببها إعادتهم بهذه الطريقة والتي ستنعكس على حيواتهم وحريتهم وأمنهم دون موافقتهم الطوعية.

    انعكست حملات العنف الجماعية المكثفة والفاشية التي طالت عموم السوريين والسوريات مؤخرًا، وتعديل قوانين الإقامة بزيادة الطلب على جوازات السفر، فخلال بداية الأسبوع الثاني من هذا الشهر، وصل دور حجز موعد بالسفارة السورية في لبنان للحصول على جواز سفر أو تجديده إلى بداية شهر أيلول المقبل، رغم أنه يصنف كأضعف جواز سفر في العالم، لضيق خيارات التنقل المتاحة أمام حامليه.

    عمليًا، تحت وطأة الممارسات اللاإنسانية والعقاب الجماعي وحملات الفاشية وخطاب الكراهية ضد السوريين والسوريات، ثمة مصير مجهول ينتظرهم، وخسائر مادية ومعنوية ونفسية لا يتصورها إلا من يقبع تحت هذا الضغط الشديد، وقضية لجوء يراد حلها بالوسائل الأمنية بينما هي قضية حقوقية وإنسانية وسياسية.

  • لويز عبد الكريم: الهويّة التي حطمها المنفى

    روماف – ثقافة

    لم يعد هناك مكان واحد يجمع السوريين


    “حين تركت الشام، شعرت أنّ روحي انشلعت” هذا ما تقوله لويز عبد الكريم التي ترفض أن تُعرّف نفسها كممثلة اليوم، ومع ذلك هي لا تفكر بالعودة إلى البلد، لأنّ “سوريا التي في رأسي لم تعدْ سوريا ذاتها اليوم. لم تعدْ موجودة، حتى الأصدقاء تناثروا وتشتّتوا، لم يعدْ هناك مكان واحد يجمع السوريين”. لكن هذا اليأس الذي يخيّم في روحها، لا يمنعها من العمل والحفر في تراب المنفى، لأنّ “لديّ ما أتشاركه مع الآخر”.

    تربطني بلويز عبد الكريم، علاقة قديمة نسبياً، بدأتْ إثرَ قيام الحراك السوري، حيث تعرّفت عليها بدايةً في قطر، خلال مهرجان ثقافي وأدبي خاص بالسوريين، ثمّ التقينا في القاهرة، ثمّ جمعتنا باريس، وأخيراً التقينا مطوّلاً في مدينة ليون في فرنسا، ومن هذا اللقاء انبثقت فكرة محاورتها.

    أجريتُ هذا الحوار مع لويز منذ أكثر من شهر، ولا أزال حتى اللحظة أشعرُ بعدمِ الرضا عن المادة التي قمت بتدوينها بعد أحاديثٍ متكرّرة بيني وبينها، والسبب الأساسي لعدم رضاي، هو الصورة التي أرى عليها لويز، كممثلةٍ وفنانةٍ، والصورة التي تراها هي عن نفسها، والمختلفة تماماً عن صورتي عنها. من هنا، ولأنّني أحبّ لويز كممثلةٍ، وكإنسانةٍ صادقةٍ إلى درجةِ القسوة والذهاب بالأشياء إلى نهايتها، فإنّني غير قادرة، ولا أقبل، ولا هي تقبل، بتزيين صورة حياة الفنانة لويز عبد الكريم، حياتها التي حطمها الذهاب إلى الغرب.

    أزمة اللا تمثيل وفقدان الهُويّة الفنية 

    لتوضيحِ الصورةِ أكثر، تذكرتُ وأنا أحاور لويز، الممثلة مريم فخر الدين، بكلِّ عنفوانها وصراحتها وقسوتها، وهي تتحدّث عن فنّاني وفنّانات جيلها، وتنتقدهم دون رحمةٍ، وكنتُ شخصياً معجبةً بشفافيةِ مريم فخر الدين، هذا الصوت النادر، الذي يقول الأشياء كما هي دون تزيين أو مواربة. من هنا، أعتبر هذه المادة من أصعب المواد التي كتبتها، لأنّني أكتب عن شخصٍ أحبّه، بطريقةٍ تمنعني من التعبير عن هذا الحبِّ، لأنّ صدق هذا الشخص، أسمى من العواطف بيننا.

    بدأتُ السجال مع صديقتي الفنانة، منذ اللحظة الأولى للحوار، وأنا أتوّجه إليها بالسؤال حول مكانها كفنانةٍ سورية تعيش في فرنسا، لتعترضَ لويز قائلة: أنا لست فنانة، لماذا تقدّمينني هكذا؟

    ـ أنتِ ممثلة.

    قلتُ لها، فأجابتْ:

    ـ أنا لستُ ممثلة. لم أعدْ ممثلة منذ وقتٍ طويل، أنا مُتوّقفة عن التمثيل منذ ١٣ سنة. اليوم حين أقدّم نفسي للفرنسيين، أتحدّث عن لويز أخرى، لويز التي تعيش في فرنسا، ليست الممثلة التي تتحدّثين عنها. لم أعدْ أعمل بمهنتي كممثلة.  لهذا لا أقبل تعريفي اليوم كممثلة.

    بشخصيتها الغاضبة راحت لويز تعبّر عن مكانتها لدى الشارع السوري قبل الثورة: نحن لم نكنْ معروفين لدى الجمهور السوري، لم نكن من فنّاني الصفِّ الأوّل، وحين وقفنا مع الحراك الثوري، اتُهمنا بأنّنا طالبوا شهرة.

    تصمتْ قليلاً، ثم تنفجر غاضبةً من جديد: أنا لاشيء اليوم. هناك في رأسي الكثير من الأفكار التي أحاول ترجمتها من رأسي على الورق، لكنّني لا أستطيع، لأنّني لست كاتبة. كنتُ كممثلةٍ أشتغل على نصٍّ مكتوب، لكنني اليوم لم أعدْ أعمل، لهذا حاولت أن أكتب، لأتخيّل نفسي مجدّداً في التمثيل، إلّا أنّني فشلت، هناك مسافة بين تخيّل النص وبين كتابته وبين التمثيل، أنا أقف في الخطوة الأولى والثالثة، لكنّني لا أعرف المنتصف، أنا لا أستطيع أن أكتب ما أفكر به… المشكلة أنّني لا أجيد فعل أيّ شيء آخر سوى التمثيل. هذه كانت حياتي: التمثيل. لهذا حياتي اليوم لم تعدْ موجودة.

    تدريب الأطفال وورشات المسرح

    تُحدّثني لويز عن تجربتِها لتدريبِ الأطفال على التمثيل في المخيّمات، في لبنان وتركيا، تقول: “لديّ مخزون من العبارات التي أستطيع استخدامها مع الأطفال من جميع الأعمار، وفي جميع الظروف، وقد استمتعت كثيراً بالعمل مع الأطفال في المخيّمات، إلّا أنّني حين جئتُ لتطبيق تجربتي في فرنسا، لم أنجحْ، لأنّ مخزوني اللغوي مختلف، ووجدتني عاجزة عن استخدامِ لغة مع الطفل الفرنسي لتطمينه، فبدا الأمر معكوساً، إذ أبدو وأنا أشرح له فكرة ما، كأنّني أوبّخه، لأنّني كنتُ أشدّدُ على اللفظ، لأنطق المفردات بطريقةٍ مفهومة، فتحوّل الأمر إلى نشاطٍ مختلف عن هدفه، وصار بعض الأطفال يتنمّرون عليّ، رغم أنّني كنت أتقبّل ذلك منهم بروحٍ رياضية، لكنّني كنت أشعر بمزيدٍ من العزلة، لأنّني عاجزة عن أداء الأدوار والمهام التي تعلّمتها في حياتي باللغة العربية. طبعاً، يصعب توضيح هذا لأطفالٍ صغار اعتادوا وتربّوا في بيئةٍ لغويةٍ مختلفة. هذا يجعلني أشعر بالغضب، وبالحواجزِ أمام ممارستي لمهنتي الأصلية هنا، كممثلةٍ، أو مدرّبةٍ على التمثيل، أو مديرة ورشات مسرح، باللغة الفرنسية.

    تشرحْ لويز علاقتها بالغضب في فرنسا، فتقول: أحبُّ غضبي، لأنّه تعبير عن حالةِ الرفض التي في داخلي، لكنّني اكتشفت أنّني صرت في فرنسا أشعر بالخجل أيضاً، وهذا أمر كنتُ أشعر به قليلًا في سوريا أثناء مرحلة المراهقة، وفي بداياتي الفنّية، لكنّه تضخم في فرنسا.

    لكن رغم كلّ هذا الغضب، فإنّ لويز تعمل في مهنةٍ لم تمارسها من قبل، وهي تربية الأطفال، وتقول بأنّها تشعرُ بمتعةٍ كبيرة مع الأطفال، وتشتاق إليهم حين تتركهم، وتبرّر هذا: أنا وحيدة. الأولاد يملؤون نقصاً موجوداً في داخلي، هناك تعلّق لافت ومختلف، شيء له علاقة بالأمومة. أكيد لن يحبّني الأطفال مثل أمهم، لكن ثمّة تعلّق ممتع لاحظه، ودائماً، المسؤول في العمل الذي يكرّر لي: الأطفال يحبّونك كثيراً.

    عودة إلى البداية: لماذا غادرت؟ 

    كان عليّ التوّقف عند المحطة قبل المغادرة، فسألتُ لويز: أنت في فرنسا بسبب موقفك من الثورة. حدثيني عن دورك في الحراك الذي أدى بك لتركِ البلد، وبالتالي عيش هذه الأزمات في المنفى.

    تقول: لم أكنْ مقموعة في سوريا، لقد تمرّدت على عائلتي، رغم الحرية الكبيرة التي منحني إياها أبي، تمردت حتى على تلك الحرية، لم أكن أفعل إلّا ما في رأسي أنا، وكان يُقال عنّي عنيدة و”رأسي يابس”. كان أبي يقول، كلّما التقى بشخصٍ أُقبِلْ على مشروعِ ارتباطٍ معه: الله يعينك. من شدّة عنادي وتشبّثي برأيي.

    لكن موضوع الظلم والتمسّك بالعدالة والحق، أمور محسومة بالنسبة لي، أنا ضدّ الظلم. لم أكن أتابع كثيراً، لكنّي أذكر حين اتصل بي أبي، وكان يطير من الفرح: شو ماعم تشوفي الأخبار؟ عقبالنا، شوفي شو عم يصير في تونس.. ثم بعد فترة، اتصل بي أبي أيضاً: بابا، وصلت لعندنا…

    انخرطت لويز في الحراك، مؤكدةً أنّها كانت تمتلك هامشاً مختلفاً من الحريّة، فهي تعمل في الإذاعة، وتستطيع الكلام. تقول: في الداخل المساحة اللي كانت لي أكثر من غيري، لأنّني أعمل في الفن ولديّ منبر، أستطيع الكلام ولو بشكلٍ موارب. ثمّة هامش من الحرية عند الفنان غير مُتاح لغيره.

    ثم تُضيف ساردةً لي عن اليوم الذي أحسّت فيه بالخوف والتهديد، فاضطرتْ إلى الهروب من مواجهة التعرّض للعنف: بعد مؤتمر سميراميس قلت على الهواء: “الإعلام السوري كاذب”. لم أكن أعرف أنّهم يصوِّرونني… “القوات السورية في درعا هي التي تحاصر البلد، وليس هناك عصابات كما يقول الإعلام”. قلتُ هذا الكلام، وهذا ما أقصده بهامشٍ ما من الحرية. لكنّني لمّا غادرت المؤتمر شعرت بالخوف، كان هناك أشخاص يحملون الهراوات أمام الفندق، فهربت من أحد الأبواب الخلفية. بدأت بعدها المُساءلات الأمنية، وتمّ اعتقال أبي أيضاً، بسبب مشاركته في المظاهرات. وخرجت في المظاهرات في قطنا. كنت خائفة بشدّة، ومع ذلك، وأنا بين البنات، صرخت فجأة: عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد.. صرت أسمع صوتي أعلى من صوتِ المظاهرة، شعرت أنّني صرت عالية وكبيرة.. لم أتخيّل يوماً أن أنطق بهذه العبارة في الشارع.

    تتابع قائلة: عرفت لاحقاً أنّ هناك كاميرات على الأسطحة تراقب المتظاهرين، وأنا معروفة قي قطنا، بنت أبو أوس، الممثلة. غادرت المظاهرة وأنا خائفة وقلبي بين قدميّ… كنت أسمع صوت قلبي من الخوف… أقود سيارتي وأنظر في المرايا إذا كان ثمّة من يلاحقني. بعدها جاءت مظاهرة القابون، وهذا بالنسبة لي كان أهم يوم في الشام. كانت القابون مُدجّجة بالسلاح، وأنا أدور بسيارتي محاولةً العثور على مكانٍ لأدخل منه صوب التظاهرة. ثم خرجنا في مظاهرةِ الميدان، لكن بشكلٍ سريع، حيث خرجت مع مجموعةِ صبايا، بينهن ممثلات معروفات. رغم هامش الحرية الذي أمتلكه، ورغم جرأتي، كنتُ خائفة، كانت المظاهرات مصوّرة وكانت وجوهنا واضحةً ومكشوفةً، وبدأتُ أشعر بالخطر، فقرّرت الهروب خوفًا من الاعتقال.

    العزلة الفرنسية 

    من الأسبابِ الأكثر صعوبة لتقبّل موضوع المنفى، أنّ لويز متعلّقة كثيراً بدمشق التي تدعوها “الشام”، وتقول: روحي في الشام، والشام روحي. لم يكن لديّ حلم السفر أبداً. حتى حين كنت أسافر لضرورةِ العمل، كنت سرعان ما أشعر بالملل والشوق والرغبة في العودة إلى دمشق. لهذا حين تركت الشام، شعرت أنّ روحي انشلعت، ولم أتمكن من ترميم أيّ شيء في داخلي، ولا بناء أيّ مكان يشبه الشام. وتضيف: ما زاد من قسوة خروجي من سوريا، هو الابتعاد عن الأصدقاء، حيث وجدت نفسي في فرنسا، في مدينة بورج الساحرة، والتي تبدو كأنّها لوحات أو مشاهد من السينما، لكن رغم هذا لم أستمتع بجمالها، فقد عشت فيها سنة كاملة دون أن أقول لأحد فيها “بونجور”، كان لديّ صديق واحد فقط، بولوني، أجنبي مثلي، تعرّفت عليه قبل شهرين من مغادرتي للمدينة.

    مع العزلة، وعدم التواصل مع الآخرين وصعوبةِ اللغة، وتعقيد الوضع المالي، تسبّب ذلك في تغيير جذري في حياة لويز ووضعها النفسي، حيث بدأ شكلها يتغيّر وصار وزنها يزداد، وصارت لديها مشاكل صحية. تقول: مع الوحدة وعدم استيعاب أنّني لم أعد أرى أهلي، أحسست أنّني منفية تماماً ووحيدة.

    لكنها فرنسا، أقول لها، ويجب أن لا نظلم هذا البلد، بالتأكيد هناك جانب جميل في هذا المنفى. ألم تعطك فرنسا أيّ شيء؟ تُجيبني: أشعر في فرنسا أنّني مسجونة، الحرية التي عشتها في دمشق حصلت عليها بجهدي، بنيتها وحقّقتها خطوةً خطوةً، وكنت قادرة على التصرّف مهما كان الظرف صعبًا عليّ، كوني كنت ممثلة وضمن الهامش الذي كنت أتحرّك ضمنه، وأعبّر عن نفسي. لم أكن جريئة جدّاً لأنّ الخوف من النظام كان قد سيطر علي. بينما هنا في فرنسا، شعرت أنّ لكلًّ تصرّفٍ مهما كان صغيراً ثمنه، وصادف هذا في فترة أحداث شارلي إيبدو، لم أجدْ مكاني في الوسط السوري الذي وجدتني محاطةً به هنا في فرنسا لأنّني لادينية، والفرنسيون أيضاً كانوا يجدون في أفكاري مغالاة لا تنسجم مع آرائهم النمطية عنّا. لقد خرجتُ في مظاهرةِ التضامن مع شارلي إيبدو، لكن النظرات كانت غريبة، كأنّهم يقولون: أنتم الأجانب! خاصة في هذه المدينة (بورج)، جميع سكانها فرنسيون، وكان الأجنبي سهل التمييز من بين السكان الأصليين للمدينة. كنت أنا وأختي وصبية ثالثة قادمة من دمشق، فقط نحن الأجانب الوحيدون في المظاهرة. أنا امرأة ملتزمة بقضايا الحريات، لهذا خرجت في هذه المظاهرة، لأدين الاعتداء على حرية الرأي. الالتزام بالنسبة لي هو فعل بمعنى أنّني  ألتزم أو أندمج بأفكاري ومبادئي، وهذا بالنسبة لي فعل يومي وليس مجرّد فكرة تُسجن في الرأس.

    في سوريا، رغم القتل الممنهج الذي قام به النظام، لكنّني لم أكن أشعر بالوحدة، كنتُ مُحاطة بأهلي وأصدقائي، بينما هنا أنا وحيدة تماماً. لقد تلقيت كلَّ هذه الآلام في فرنسا وحدي دون شراكة صديق أو أحد أتحدّث معه عمّا أشعر به وأعيشه. وبعد خروجي من سوريا خاصة، تضاءلت كمية تواصلي مع الناس الموجودين في الداخل، خوفاً على أمنهم. كان صوتي عالياً في تلك الفترة، وكنت أتحدّث وأكتب وأعلن غضبي من النظام، لهذا فإنّني كنت أشكّل خطراً على معارفي في سوريا.

    النشاطات الحالية، عملها الأخير في يوم المرأة العالمي

    بمناسبة عيد المرأة العالمي لهذا العام، شاركت لويز مع مجموعة نساء في تقديم مسرحية “البطلات”، حيث البطلات الوحيدات للعرض هنّ النساء، كما اشتغلت كثيراً في ورشات مسرحية لتدريب النساء، اللاجئات خاصة، والرجال أيضاً، على التمثيل. تتحدّث لويز عن متعتها في العمل في هذه الورشات: تسحرني فكرة العمل الجماعي. هناك اشتغال يومي، تحت إدارةِ شخص واحد، لهذا نتقاسم نحن المشاركين المتعة ذاتها، سواء كنت أنا من أدير الورشة أو إذا كنت تحت إدارةِ أحد غيري. أحبّ فكرة التشاركية، هناك متعة كبيرة في العمل المشترك، هذا يعني أنّ لديّ ما أتشاركه مع الآخر: الخبرة، الألم، كيف تجاوزت الألم… هناك إحساس بالتعافي النفسي عبر المسرح، أنا أؤمن بالفن كعلاجٍ روحي.

    حول التفكير في العودة

    نعم، طيلة الوقت أفكر في هذا. لكن لا أستطيع. مشكلتي ليست مع النظام، لقد حصلت أشياء أخرى، صار لدينا تجار حروب وإفقار للشعب، أنا أخاف من شبيحة كلّ الأطراف. أنا جبانة، وتركت البلد لأنّني كنت خائفة، لهذا لا أستطيع أن أعود حتى بعد سقوط النظام. سوريا التي في رأسي لم تعدْ سوريا ذاتها اليوم. لم تعدْ موجودة، حتى الأصدقاء تناثروا وتشتّتوا، لم يعدْ هناك مكان واحد يجمع السوريين، صارت علاقاتنا افتراضية الآن… حتى في الفن، يتم الاتفاق عبر الانترنت، ثم تأتي الموافقة للإقامة والعمل. صار من الصعب أن نلتقي حتى نفكر معاً، ونخطّط للعمل، ونعمل على مشروعنا الفنّي. حالة بناء العمل واللقاءات المشتركة صارت صعبة.

    يطول الحديث مع لويز الممتلئة بالأفكار والمشاريع للعمل، ولكن مع الكثير من الإحباطات، لأنّها تزرع في أرضٍ جديدة، عليها أن تبدأ في كلِّ مرّة فيها، كأنّها بطلة من أبطال الأساطير، ككثيرٍ من السوريين، كأنّها سيزيف، تأخذ الصخرة المتدحرجة، وتعود للصعود بها إلى قمّة الجبل.

    حكاية ما انحكت 
  • حتى لا نظهر كندبة على جبين العالم..
    روماف – ثقافة لحظة من فضلك أيها العالم إمنحنا دقيقة واحدة لنغسل الدم عن وجوهنا لنلون زرقة أيدينا وأقدامنا ولنبحث بين أكوام الركام عن ملابس أنيقة لنعيد تصفيف شعورنا كما يجب حتى نسهل الأمر على وكالات الانباء التي تحاول أن تثبت للعالم أجمع أننا بخير تماما وأن على الناس أن يلتفتوا للثقوب السوداء، مواسم الجفاف وأنواع الحيتان المهددة بالإنقراض بدلا من أن يثيروا ضجة كهذه لمجرد أن بلدة صغيرة شطبت من على الخارطة.. لحظة من فضلك أيها العالم أعطنا بضع دقائق لندهن المساحيق فوق وجوهنا المدماة لننفخ الروح في جثثنا المصلوبة جثثنا المعلقة فوق أعمدة الإنارة من أثر الانفجارات.. لنبحث عن أيدينا المبتورة ونلصقها على عجالة بأجسادنا كي لا يهدر العالم دقائقه الثمينة في اطلاق الشجب والاستنكارات من اجلنا لحظة ايها العالم لنخبئ مهاجرينا تحت اسرتنا لنعيد اطفالنا اللاجئين الى ارحامنا لنطلق خيامنا كبلالين في الفضاء لنطلب من جيراننا الطيبين جدا اشقاءنا العرب أن يخبئوا مأساتنا أوانينا المنزلية وثيابنا الرثة في خزاناتهم الفارهة لدقائق دقائق فقط.. حتى لا يتسن لممثلات هوليوود الأنيقات أن يلتقطن صورا للمباهاة بجانب أطفالنا أطفال العالم الثالث وهن يتركن مسافة واضحة بينهن، وبين اجسادنا النحيلة، والقذرةلنختبئ في حجر أمهاتنا ولتختبئ أمهاتنا في حجر أمهاتهن كذلك وهكذا علينا أن نختفي قليلا كي يتسنى للعالم أن يلتقط صوره ضاحكا حتى لا نظهر كندبة على جبين العالم كبقعة قذرة على ياقة ملابسه الأنيقة، والمرتبة.. حتى لا يأخذ العالم وقتا طويلا في اختيار زاوية التصوير المناسبة التي تظهر ملامحه.. أقل قبحا. حتى لا نزعج صباحاتك بأخبار موتنا العاديّ والمكرر.. علينا أن نذهب إلى قياماتنا بهدوء.. على مآسينا أن تختفي كفقاعات صابون في الهواء حتى يكون بوسعك.. أيها العالم أن تظهر ضاحكا في صورك كلها دون أن تقلق من أن تطلّ بناتنا من محاجرك.. داميات وباكيات وحزانى.. أو أن ينطلق سهوًا أحد أطفالنا – المكومين وراء الستارراكضا.. خلف حشرة أو قط بريّ وهكذا ويا للأسف.. سيظهر بكل بشاعته.. أمام الكاميرا سيفسد على العالم الأنيق.. حفلته.

    آلاء جسانين 

شارك المقال
Exit mobile version