روماف – ثقافة
أتذمر أحيانًا وأقول بأنني لم أحصل على حقّي في الكتابة، والسبب كوني كردية أكتب بالعربية.
أنظر خلفي إلى تاريخ القمع الممارس على كتابتي في سورية، ذات الهوية القومية العربية النابذة لغيرها: الجمهورية العربية السورية، كما تُدعى رسميًا، والتي لا تجد فيها الإثنيات الأخرى مكانها. لن أتحدث هنا عن المنع من النشر الذي تعرضت له مرارًا، والذي يتعرض له الكتاب العرب أيضًا، إذا اقتربوا من “التابوهات” المعروفة، لكنني سأوجز بأن كرديتي حالت بيني وبين التواجد داخل المشهد الثقافي السوري: تجاهل إعلامي وثقافي، وعدم مشاركة في أي فعاليات داخل البلد..
لكن الكتابة العربية ليست محصورة بالكتابة داخل سورية ونظامها الأمني المتشدد سياسيًا وثقافيًا، البلد الذي أدعوه بنظام “بيغ براذر” وفق تعبير جورج أورويل، والتي يصعب فيها، لكاتب حر، أن يظهر.. وحين يكون هذا الكاتب فوق ذلك، من الأقليات المشكك في ولائها السياسي، فالكردي مُتهم حتى تثبت براءته وولاءه للنظام، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا، وفوق ذلك، وهو أهم من أي شيء آخر في رأيي، أن يكون هذا الكاتب امرأة.
ولأن الكتابة بالعربية ليست محصورة في سورية، فقد استطاعت البلاد العربية أن تمنحني بعض حقوقي التي لم أحصل عليها في سورية، حيث صارت كتبي متواجدة في لوائح الجوائز العربية الشهيرة، كالبوكر، والشيخ زايد، ونجيب محفوظ.
لهذا، فإنني اليوم أقلّ تذمرًا بكثير، بل يأتيني السؤال بشكل معاكس: لو أنني كتبتُ باللغة الكردية، كما يطالبني كثير من الكرد، لما أنجزت عشرة في المئة مما أنجزته اليوم، رغم عدم رضاي عما وصلت إليه.
الدائرة الكردية الضيقة: ثقافة القبيلة
في لقاء جمعني ببعض الشخصيات الكردية المهتمة بالشأن الثقافي، دار الحديث حول سبب عدم وصول الكتاب الكرد السوريين تحديدًا إلى العالمية، وعدم قيام أحد الكتّاب الكرد المقيمين في أوروبا، الكتابة بلغة أخرى، غير العربية، أو الكردية، أي لغة البلاد التي يحملون جنسيتها.
قال أحد الحاضرين: أدخل بيوت الكتاب الكرد هنا، فأشعر أنني في عفرين، أو القامشلي، أو الحسكة… من النادر أن أرى كتبًا أجنبية في مكتبته، أو أشعر بأثره وتأثيره في المشهد الثقافي في البلد الذي يعيش فيه.
طال النقاش بين الأصدقاء حول أسباب عدم خروج اسم كاتب كردي إلى العالمية، ليأتي دوري في الكلام.
حاولت ألا أتحدث بغضب، وألا أكون مستفِزة، فقلت:
حسنًا، هذا أنا بينكم الآن، كتبتُ باللغة الفرنسية، ولا أدّعي أبدًا أنني دخلت في العالمية، لكنني أؤكد اندماجي في ثقافة فرنسا وعاداتها منذ استيقاظي في الصباح، وحتى النوم، جميع عاداتي، بل أغلبها، مرتبطة بالتقويم الثقافي الفرنسي، ولكن هل تعرفون السبب؟
انتظر مني الجميع شرح سبب تمكني من الذهاب إلى ثقافة الآخر، فتابعت: السبب أنني لا أعيش بينكم.
رحت أشرح لأصدقائي الكرد فكرة القبيلة التي تمنع الإبداع، لأن الإبداع حالة فردية، وفيها كثير من الانقلاب على مفهوم الجماعة والانتماء الجمعي..
إن المجتمع الكردي مجتمع محافظ بشدة، حتى القسم اليساري فيه، أو الليبرالي، خاضع في نهاية حلقاته لقوانين اجتماعية صارمة، تطبق على الكرد في أوروبا، ما تطبقه عليهم في البلاد..
لا أنوي هنا، في هذه المساحة الضيقة، تحليل المجتمع الكردي الذكوري بشدة، والذي يمارس قمعًا بطريقة ما على المختلفين عنه، من الرجال كما من النساء، ولكن التوقف سريعًا عند هذه العناوين الرئيسة يفسّر سبب غياب قابلية الكاتب الكردي للتفكير خارج قوانين القبيلة، أو الجماعة، أو الطوطم.
كما أن غياب فكرة الدولة الكردية في العموم، حيث تجربة إقليم كردستان لا تزال طرية وطازجة، يجعل من الهمّ الكردي مسألة هوية وانتماء، وأولوية على القضايا الإبداعية الأخرى، التي لا تزال يُنظر إليها بعين الدونية وقلة الأهمية، وربما تبدو من باب الترف.
حين تناقشت مرة مع مثقف كردي في باريس حول موضوع إحدى رواياتي، وكانت يومها “بنات البراري”، التي تتحدث عن جرائم الشرف، حاول ذلك الشخص التقليل من أهمية الموضوع، وقال لي: يجب أن تكتبي أشياء تخدم مجتمعك!
حسنًا، هذا يعيدنا إلى قضية الأدب الملتزم، وهنا لا أتحدث فقط عن الالتزام السياسي، أو الاجتماعي، بل عن الالتزام الأخلاقي.
والأخلاق التي أعنيها هنا، ليست المنظومة الأخلاقية بالمعنى الفلسفي، وتقييم العالم من خلال مفاهيم أخلاقية معرفية، كالخير والشر والفضيلة والكراهية… لأن هذه مفاهيم ثابتة، يتطرق إليها الأدب غالبًا، والأدب العظيم في رأيي هو ذلك الذي ينهل من هذه القيم، لكن الأخلاق لدى هذه المجتمعات غير المتحققة، وغير المكتملة، هي أخلاق تقييمية ترتكز على الحكم على الآخر في كونه شخصًا جيدًا يتم الترحيب به، أو سيئًا يجب نبذه..
أما معيار الحكم بالجيد، أو السيء، فهو مرتكز على مدى ولاء الشخص للجماعة، ومدى تماهيه معها.
بجرأة، ترددت قليلًا، ثم قلت: أنا أشعر بالحرية حين أكتب بالفرنسية، وحين أكون في ندوة، أو لقاء، باللغة الفرنسية، فأنا لا أبرّر أفكاري، بل أوضح لهذا الآخر الذي لا يعرفني، وغالبًا ينظر إليّ بعين تحاول الفهم والقبول، لا بعين المحاكمة من خلال مصلحته هو.. لهذا فإنني اليوم بينكم، ككاتبة شقّت طريقها أولًا في مجتمع ثقافي عربي لديه كثير من التابوهات، ولكن أيضًا لديه تاريخه في النقد والمساجلة والتعرف على الآخر، فهذا المجتمع العربي، رغم أن هنالك كثيرًا أيضًا من النقد الضروري لتحريره من الأبوية والذكورية والقبلية… إلخ، لكنه أيضًا قرأ بهذه اللغة ترجمات لأسماء كبيرة ساهمت في تشكيل الفكر النقدي العربي.. ثم جاءت علاقتي بالمجتمع الفرنسي لتُخرجني من حالة الحاجة إلى التبرير، أو الحصول على الاعتراف “الأخلاقي” قبل “الثقافي”، بسبب العقد الاجتماعي العام، الذي ينضوي تحت بنوده جميع مواطني هذه البلاد، وفيه، في هذا العقد، تنتصر حرية التفكير على أي مفهوم آخر، في حال حدث أي نزاع بين الحرية وبين قيم أخرى..
طوطم القبيلة مجددًا
منذ أيام، تم عقد مهرجان ثقافي في مدينة دهوك في كردستان العراق، وحصل سجال طويل حول أسماء الأشخاص المدعوين إلى المهرجان، حيث قام أحد الشعراء غير المعروفين بإلقاء قصيدة هزيلة في حفل الافتتاح الذي حضره السيد مسعود البرزاني..
وهنا نعود إلى جذور تخلف المشهد الثقافي، سواء الكردي، أو العربي: الإصرار على احتكار المشهد الثقافي من قبل المعارف والأصدقاء لا يختلف عن احتكار السلطة السياسية بين أفراد العائلة الواحدة. لهذا لن يتطور المشهد الفكري طالما يفضّل أحدنا جاره، أو قريبه، أو صديقه، الذي ليست له علاقة بالإبداع، على الكاتب الحقيقي المُبعد، لأنه كائن حر وبعيد عن دوائر الطوطم والانتماءات السياسية، أو الاجتماعية، أو القبلية.
إن مشاكل المجتمع الكردي الثقافية أوسع بكثير من مشاكل جاره، أي المجتمع الثقافي العربي، حيث تغيب المؤسسات الفكرية والثقافية الحرة لدى الكرد أكثر، لأسباب سياسية واسعة، تتعلق بالهوية القومية للكرد، وخصوصيتهم في المنطقة، الأمر الذي أجده من النقاط العاجلة للاشتغال الفكري عليه: مواضيع الهويات المتعددة وأزمة الانتماءات… وهذه في رأيي أولوية لدى المثقف الكردي، الذي يدور في الحلقة ذاتها، منذ بداية هذا المقال، ليجد المثقف الكردي الحقيقي ذاته مُبعدًا عن الضوء والتقدير ودوافع العمل الجادة ضمن بيئة لا تفرّق بين الجيد والسيء إبداعيًا، لا أخلاقيًا.