يضع النظام السوري ثلاثة شروط بسيطة لقبول الراغبين المشاركة في ما يُسمّى “الحوار الوطني”، الذي يبدأ فعّالياته بعد أيام، حسب إعلان الجهة الداعية له (حزب البعث العربي الاشتراكي)، وهي عدم “دعم الإرهاب والاحتلال والتقسيم”، والدعوة مفتوحة إلى كلّ من يرغب بتعافي سورية اقتصادياً وسياسياً. وهذه الشروط، بقراءة مُجرّدة عن واقع النظام وحربه على معارضيه، وتصنيفه لهم، “مُحقّة” نظرياً، والغاية الأساسية من أيّ جهد وطني في أيّ بلد، سواء يعيش أزمات مصيرية أم لا، معالجة الأزمات القائمة أو المُحتمَلة، لكنّ تلك الشروط، بين السطور، إضافة من الرئيس بشار الأسد إلى معنى التصنيفات التي أطلقها على المجتمع، بين متجانس وغير ذلك، ومن يحقّ له حمل الجنسية السورية من عدمها.
ما لا يمكن إنكاره في الواقع السوري الحاجة إلى حلّ، وإلى الحوار الجادّ بين السوريّين لضرورة البحث عن آليات الحلّ لوقف الانهيار، الذي طاول كلّ تفاصيل حياتهم، على أن يكون هذا الحوار بين فاعلين في القرار السوري، ومُؤثّرين فيه، أيّ بين نظام حاكم وشعب له حقوق مواطنة، والشعب هو العامل الحاسم في اختيار من يحكمه، أي أنّه يستطيع الضغط على حكومته لاتخاذ سياساتٍ توفّر له الحياة الكريمة، يعني لو أنّ المتحاورين توصّلوا إلى نتيجة ما، فهم يملكون وسائل تنفيذها عبر حكومتهم. وعلى اعتبار النظام أنّ السوريّين الذين يعيشون في مناطق سيطرته مجتمع مُتجانس لا خلاف بينهم، فإنّ الحوار الذي ينشده النظام أو الحزب الحاكم (البعث) إذا كان مع مؤيديه، الذين تنطبق عليهم شروطه وفق فهمه المصطلحات، هو حوار “فضفضة” لا أكثر.
ما لا يمكن إنكاره في الواقع السوري الحاجة إلى حلّ وإلى الحوار الجادّ بين السوريّين لضرورة البحث عن آليات الحلّ لوقف الانهيار
ومع افتراض حسن النيات لطرح “الحوار الوطني” من جديد من النظام السوري، وأنّ نتائجه ستكون مختلفة عما سبق من تجارب مُكرّرة ومعادة من عام 2011، أدّت إلى كوارث على الذين شاركوا فيها، منها التجربة التي عِشْتُ تفاصيلها منذ الأيام الأولى للثورة السورية، وبحلقات صغيرة ومُتعدّدة، كانت بدايتها في منزلي بدمشق، بطلب من النظام، بين شخصيات مُعارضة ومُمثّل عن النظام، تولّى المُهمّة عنه آنذاك العميد مناف طلاس، الذي انشقّ لاحقاً.
ورغم أنّ المطالب كانت بسيطة، وفي متناول اليد كما يقال، منها وقف تغوّل الجهات الأمنية على السوريّين، وإطلاق سراح المُعتقَلين، وحرّية الرأي، وعدم انتهاك الملكيات الخاصة، وقانون أحزاب ينهي مفاعيل المادة الثامنة من دستور 1973، والتي كانت تنصّ على أنّ “حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد للدولة والمجتمع”، كان الردّ اعتقال بعض المعارضين الذين حضروا اللقاء، واضطرار آخرين للفرار من سورية، ولاحقاً، إقالتي من رئاسة تحرير صحيفة تشرين، بعد إدانتي عمليات قتل السوريّين في لقاء مع قناة الجزيرة في 8 إبريل/ نيسان 2011.
بعد ذلك، كانت تجربة اللقاء التشاوري في مُجمّع صحارى (10يوليو/ تمّوز 2011)، التي قاد الحوارات فيها نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع، وقال فيه: “الحوار ليس بالأمر البسيط ولا هو دائماً في متناول الجميع كما قد يتوهّم بعضُهم، إذ لا بديل عنه في الوضع الراهن غير النزيف الدموي والاقتصادي والتدمير الذاتي”. وكأنّ الشرع كان يقول للجميع ما شهدناه خلال 13 عاماً، فخيار الحوار أو الدم لم يكن على أساس أن ينتج الحوار حلّاً سياسياً، بل الحلّ الذي يريده النظام، والذي يتوافق مع استمرار شعار “الأسد أو نحرق البلد”، رغم أنّ نائب الرئيس كان مُحقّاّ في قوله إنّ “اللاحوار فكرة عبثية، فالحروب الكبرى والصغرى والأزمات الوطنية والقبلية لم تنته يوماً إلا بالحوار، أو بواسطته”. لكنّ تلك الحوارات كلّها كانت تحتاج إلى طرفَين، وهو ما لم يتوفّر في الحالة السورية، حيث الأسد لا يزال لا يسمع إلّا نفسه، وما يريده لاستمرار حكمه.
ولهذا كلّه فشلت محاولات صنع أيّ طاولة حوار، أو تفاوض، سواء في دمشق أو أستانة أو سوتشي أو جنيف، ولعلّ ترتيب النظام سياق الحوار عن التعافي من الاقتصادي إلى السياسي لم يأتِ مصادفةً، ولكنّه تأكيد ثوابت عرقلته تنفيذ مطالب السوريّين بأسبقية الحلّ السياسي، الذي طالبت فيه التظاهرات السورية السلْميّة، والذي يفرضه على الأسد قرار مجلس الأمن 2254، الذي يضع خريطة طريق للحلّ السياسي، الذي يفتح الأبواب للحلول الاقتصادية والاجتماعية، ولعلّ رفض النظام القرار لأنّه يكسر “وحدانيته” في تمثيل الدولة السورية، ولأنّه يمنح المعارضة السورية شرعية تمثيل سورية في التساوي مع النظام.
أيّ حوار يتطلّب، أولاً، حماية مصير المتحاورين والاعتراف بالأزمة السياسية في سورية، وكذلك الاعتراف بضرورة التغيير السياسي
الرغبة في الوصول إلى حلول اقتصادية تحول دون الانهيار الكامل للدولة أمر مشروع، وهو في متناول الجميع، وطريقه مفتوح عبر الحلّ السياسي وليس بالقفز عليه. والمسألة هنا ليست مُجرّد الحوار من أجل الحوار، فأيّ حوار يتطلّب، أولاً، حماية مصير المتحاورين، والاعتراف بالأزمة السياسية في سورية، وكذلك الاعتراف بضرورة التغيير السياسي في سورية، وهذا ما يرفض النظام أن يعترف به، لأنّه يعتبر سورية حِكراً له، وأنّ كلّ معارض إرهابي أو داعم للإرهاب أو الاحتلال أو التقسيم، وهي الاتهامات التي تنفيها باستمرار هيئات المعارضة السورية عن نفسها، فهي تدين جبهة تحرير الشام وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كما تدين الاحتلالَين، الإيراني والروسي، وترفض سياسات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي لسورية، فهل يقبلها النظام في حواره المزعوم متجاوزاً رأيها في الوجود التركي في سورية؟ وماذا لو قبلت هيئات المعارضة بدعوته؟… سؤالان لا يحملان “التهكّم”، بل البحث عن حقيقة رغبة النظام في الوصول إلى حلّ حقيقي لأزماته المتفاقِمة، التي لا يمكن حلّها بتقديم الحلّ الاقتصادي على السياسي، فالاستقرار والأمان والحرّية روافع الاقتصاد والتنمية ما بعد الحرب الدامية.