صبري رسول
صدرت المجموعة الشّعرية ميزوبوتاميا للشّاعرية السّورية الكردية ميديا شيخة اكترونياً على صفحة الموقع (صرخة الشّيوعي) قبل بداية العام الحالي بأيام، يُذكر أنها المجموعة الثّانية لها، حيث أصدرت الشّاعرة مجموعتها (الخسوف الجزئي) سابقاً، التي هي عبارة عن مقاطع من الشّعر الهايكو. تحتل هذه المجموعة، اثنتين وثمانين صفحة من القطع الكبير، وهي عبارة عن نصّ طويل، اتّخذت الشّاعرة من جغرافية « ميزوبوتاميا» منطلقاً إلى كتابته، مع غلافٍ أنيق تتجاور فيه رسوماتٌ من التّراث التّاريخي لميزوبوتاميا، لكن من دون إشارة إلى لوحة الغلاف والتّنسيق.
الجغرافيا المعروفة بذاك الاسم والمشار إليها بين نهري دجلة والفرات، مليئة بأحداثٍ ووقائع، دينية وتاريخية لشعوبٍ عمّرت حواضر النّهرين، وتعاقبت بضعُ حضارات فيها، ثمّ غابت بفعل الصّراع الدموي الذي ساد العلاقات بينها، توسّعت حدودها بفعل الحروب وطغيان حكامها فطغت فتراتٍ طوال، ثمّ غابت غالبية تلك الشعوب، وقد يكون الكرد مستثنين منها، فحافظوا على وجودهم، وبنوا دولاً وإمارات كثيرة خلال التّاريخ. هذه الجغرافيا وأحداثها هي محور النّص الطّويل، تستحضرها الشّاعرة بفخر واعتزاز:
«نحنُ المتجذّرونَ في القرونِ الغابرةِ
من (أهورا مزدا وأهريمان)
نحملُ سلالاً ملأى بألفِ حقلٍ وحكايةٍ» ص8
كما أنّها تبني تفاؤلاً مطلقاً بأن حضارة الكرد ستسجّل الانتصار على الظّلم والظّلامية، وعلى جيوشٍ تبيحُ نساء الكُرد، في ترميزٍ واضح إلى القوى الدّينية المتطرفة التي تعيث في الأرض فساداً باسم الدّين وتحت علمه وشعاره:
«لن تنحني لجيشٍ سيوفُه من خشب
يدعو إلى إقامة معارض النّساء باسم الآلهة» ص8
فالخلودُ، الذي بحث عنه الإنسان منذ القدم – هو الخلود ذاته الذي قدّسته الدّيانات ودعت الناس إلى عمل الخير من أجل الدّخول إلى «جنات عدنٍ» – لم يأتِ من خارج جغرافية ميزوبوتاميا، بل وليدُ الفكر البشري الذي آمن به عشاق معبد «لاله ش» والديانة الإزيدية، …
«و “لالش النوراني” دربُنا نحوَ الخلودِ
من قبسِ روحِهِ ننهلُ
العلمَ، الحكمةَ، التراتيلَ والصلواتِ»ص12
لجوء الشاعرة بين حينٍ وآخر إلى الصّور البلاغية، يكثّف التّعبير، ويعفيها من الشّروحات والتّطويل، ويشحن الجملة بطاقة من الأحاسيس، إنّها الرّوح الشّعرية المختزلة بالصّورة الشّعرية.
«… أنا المرأةُ الطافحة بالحبّ، تجوبُ الأرضَ/ وتلفحُ أناشيدنا أكتاف الهضبات الواثقات ص20. «باتتْ شفتايَ كتوتٍ بريّ/ ينضجُ على صفيحِ الزمنِ»ص28
التّركيز على الرّموز يضع القارئ العادي أمام إشكالياتٍ في القراءة والتّأويل، ويُضفي على النّص إبهاماً إضافياً، ذاك من طبيعة النّصّ المتشابك مع التّاريخ، والخوض الشّعري في النّصوص التّاريخية أكثر خطورة من الرّكض في حقل الألغام، فالّلجوء المتكرّر إلى الكنايات، والاستعانة بالتّرميز، والاتّكاء على الصّورة الشّعرية، منحت الشّاعرة ميداناً إضافياً للمراوغات وإنتاج المقاطع بشكلٍ تلقائي. وأضفى التّناص متعةً روحية للقارئ «وفي جبالِ وتّدها الله ص54. والعظامُ رميمٌ،ص67».
هذه القيم النّقدية تبيّن أنّها أرادت أن يكون النّص حافلاً بالرّموز والكنايات عكس ما ورد في مقدمة الزّميل والصّديق عبدالوهاب بيرني على خلفية الغلاف «اختارت المفردات البسيطة وبعفوية بالغة، ودون اللجوء الى الكنايات او الرمز او التناص».
كثافة الصّور البلاغية، كالاستعارات والكنايات تخلقُ متعةً لدى المتلقي عند قراءة النّصوص: «كان وطناً نهشه التّاريخ المزيّفُ. نحملُ سلالاً ملأى بألفِ حقلٍ وحكايةٍ. يدعو إلى إقامة معارض النساء باسم الآلهة. تَعِبَ الورقُ من كثافة بياضها. إلى روحِ الثّكالى في سنجارَ».
وقد يحتاج بعض القرّاء إلى البحث عن فكّ دلالات الجمل وترميزاتها، فكلّ اسمٍ وموقعٍ وواقعة له دلالات ورموز لا يمكن اختصاره، فمن لم يكن مطّلعاً على ألواح سومرية، ومدونات اللّوح الجلجامشي لن يتمكّن من معرفة المقصد من الألواح: «هيا، فسّر لنا ألواح الحكم ومواجع التقلّبات/ ثمانية عشر لوحاً تنتظر رواة التّاريخ»ص36
ما أصاب الكُرد لا يمكن اختزاله في كتابٍ أو مجلّد، فالمصائب أكثر مما يمكن إحصاؤها، أو وصفها، بصور شعرية من غير تكلّف، نجد الشّاعرة أوجزتْها في تلميحاتٍ عميقة، صورٌ بائسة من الحياة اليومية تؤرّخُ حروباً تاريخيّة خلّفتْ هذه المعاناة التي لا تنتهي، تلك المصائب أنهكَت طاقات شعبٍ جاء من رحم ميزوبوتاميا. فنصب الشّعر نفسه لتأريخ الصّور من دون أرقامٍ زمنية:
«طفلٌ يبحثُ عن ابتسامةِ أمِّهِ هنا/ ضاعتْ منه ليلة العاصفة/ صبيّةٌ على قارعةِ الطريقِ/ أمٌّ منحنيةٌ على وليدِهَا هناك/ شيخٌ يبكي عمرهُ والذكرياتِ/ والدٌ ينتظرُ عودةَ أبنائِهِ إلى عتبةِ البابِ»ص21
هناك أصواتٌ كثيرة من الفرس والتّرك والعرب، تدّعي أنّ الكرد بلا حضارة، بلا ماضٍ، بلا تراثٍ ولا ثقافة، كنوعٍ من الإنكار على وجودهم تاريخياً على أرضهم، وتلك المواقف لا تأتي عبثاً، بل إنّها محاولاتٌ لاقتلاع جذورهم حتى في التّاريخ بعد فشلهم في التّذويب والإبادة. الرّد الشّعريّ في نصّ ميزوبوتاميا يأتي بسيطاً، لكنه عميقٌ وقويّ، فالكردُ أصحابُ أبجديةٍ تاريخية هي المفصل لبداية الكتابة التّاريخية.
«حروفُنا كانت رسوماً، أشكالاً، كائنات/ تسرّبتْ روحها، مختزلة إشاراتها، إلى رموزٍ/ هي أبجديتنا» ص29.
هذا النّصّ، هذه النّصوص، التي تشكّل مقاطعُها نصّاً طويلاً واحداً، جديرة بالقراءة، وقد صدرت المجموعة ورقياً عن دار بيلا في قامشلي مؤخّراً وهي الثّانية للشّاعرة بعد «الخسوف الجزئي» في شعر الهايكو وهي ترتّب لصدور الثّالثة «الباب المواري للصّدى».