روماف – رأي
فتح الحراك الشعبي وضمنه الطلابي في العواصم والجامعات الأميركية والأوروبية ضد الحرب الإسرائيلية الظالمة على غزة أبواب التعريف بالقضية الفلسطينية من منظور غربي جديد، سقطت من حساباته حالة “الرهاب المزمن” من الرواية الإسرائيلية، واستغراق الكيان الصهيوني بدور الممثل الشرعي لضحايا مذبحة “الهولوكوست”، ما أزاح عن كاهل بعض الأنشطة والفعاليات الأوروبية مسؤولية قراءة الأحداث من وجهة نظر صهيونية، ضمن مفهوم قدسية كل ما يتعلق بدولة إسرائيل وسياساتها ووسائل دفاعها، ووجوب تبرير عنفها وتعسفها على حقوق الفلسطينيين.
فبينما أدخلت صدمة عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس ضد مواقع إسرائيلية (في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023) معظم دول الغرب في ثنائية أخلاقية متناقضة، بين أحقية المقاومة في ممارسة مناهضتها للحصار الذي تفرضه عليها إسرائيل، وبين أحقية الأخيرة في الرد على الهجوم، بما يحفظ أمنها، ويمنع تكراره، ويحرّر رهائنها، حسب تبريرات ساسة اسرائيل، إلا أن هذه الثنائية أيضًا دخلت في متاهات متعددة بعد أن تحوّل الرد إلى حرب إسرائيلية شاملة، هدفها إبادة الشعب الفلسطيني، ومعاودة احتلال ما تبقى من أرضه في قطاع غزة، الذي كان ولا يزال في حصار ظالم ومشدد طيلة 17 عامًا، وإعادة رسم خارطة جديدة لمفهوم اتفاقية أوسلو التي لا تزال معظم بنودها مجهولة المصير إسرائيليًا، وعلى قيد الانتظار فلسطينيًا.
فمنذ ما يزيد عن سبعة أشهر، وعبر مراحل تصاعدية، أسهمت الحرب في سماع أصوات بعض النخب الفكرية ضد الحرب الإسرائيلية، بعد أن بدأت تتلمس تحول الرد الإسرائيلي إلى حرب إبادة جماعية، لم تتوقف مع دخولها الشهر الثامن على التوالي، وبعضهم من اليهود، الذين لم ينكروا حقيقة ما يجري في فلسطين من مجازر جماعية على أيدي القوات الإسرائيلية، ومنهم الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر التي قالت بعد نحو شهر واحد فقط من الهجوم الإسرائيلي على غزة، حسب مقال في “بي بي سي نيوز” (5/11/2023): “إنه يجب أن نأخذ تعبير (إبادة جماعية) على محمل الجد لأنه يصف ما يحدث بالفعل، فالهجمات لا تستهدف المقاتلين فقط، وإنما تستهدف أيضا السكان والمدنيين في غزة، وهم يتعرضون للقصف والتهجير”.
أي نحن بإزاء حرب بالقدر الذي أضرت فيه بالشعب الفلسطيني، بالقدر الذي أزاحت فيه الغطاء عن حقيقة فلسفة سياسة هذه الدولة الصهيونية الاستعمارية، وممارساتها العنفية ضد أصحاب الأرض، بهدف إبادتهم وانهاء قضيتهم، كما أنها بدّدت ادعاءات الصهاينة بالتفاف يهود العالم حولهم، وهو ما ظهر في الحراك الغربي الشعبي، والآخر النخبوي، الذي يقوده طلبة من الجامعات وأساتذتها، في حراك نوعي، ومبني على حقائق تاريخية، وهو مؤثر بين الشعوب ويتنامى ضد دعم حكوماتهم لإسرائيل، التي وصفتها المظاهرات بأنها دولة عدوانية وعنصرية، مطالبة حكوماتها بالعمل على وقف الحرب الظالمة على الفلسطينيين.
“دعت الصحافية الكندية نعومي كلاين، وهي يهودية، في تجمّع في نيويورك إلى “التحرّر من صنم الصهيونية الزائف الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا” وقالت: “إن فكرة الصهيونية عن التحرّر هي دنسة بحدّ ذاتها، واقتضت منذ البداية تهجير الفلسطينيين من بيوتهم وأرض أجدادهم”” |
ما يعني أن الصورة التي حرصت إسرائيل عليها في إعلام الغرب عن هذه الحرب وحيثياتها ومجرياتها، قد كسرت، وتم تبديد مصداقيتها، على ذات الصفحات الإعلامية التي نقلت أخبار الاحتجاجات، وصورت “بروشوراتها” المحمولة بأيدي طلبة جامعيين ومدرسين، وجميعها مناهضة للحرب والسياسة الإسرائيلية، في معقل الدول الداعمة لها، من الولايات المتحدة الأميركية إلى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول التي تساند إسرائيل ماليًا وعسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا.
نعم يمكن القول إن تلك الحرب أفرزت تعريفات جديدة للقضية الفلسطينية، وللصراع مع إسرائيل، سواء في مفهوم المواطن الغربي العادي أو المثقف، فلم تعد القضية هي نزاع الوجود اليهودي الخائف دائما في مواجهة أعدائه، بل هي نزاع بين محتل إسرائيلي وأصحاب أرض، ولم تعد هذه المقولة سرًا يخشى قائله من إذاعته علنًا، فقد دعت الصحافية الكندية نعومي كلاين، وهي يهودية أيضًا، في تجمّع في بروكلين نيويورك في نهاية شهر نيسان/ أبريل الماضي إلى “التحرّر من صنم الصهيونية الزائف الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا”، وقالت: “إن فكرة الصهيونية عن التحرّر هي دنسة بحدّ ذاتها، واقتضت منذ البداية تهجير الفلسطينيين من بيوتهم وأرض أجدادهم”.
هكذا صار الغرب يعرف القضية الفلسطينية بقضية حقوق مواطنية، لا تختلف عن حقوقه، بل هي اليوم في مساراتها صارت المرآة التي عكست عيوب ما اعترى ديمقراطية الغرب في بعض الدول، وعرت سياسات الأحزاب الحاكمة فيها باسم الديمقراطية، وهو ما أوجد نخبة جديدة من الناشطين الحقوقيين، المطالبين بعودة الحراك الشعبي من أجل صيانة الحريات الغربية، التي هي مرتكز نهضتها، من حرية الرأي، والتظاهر، إلى حرية التعبير والإعلام، التي تراجعت تقييمات دول كبرى في تصنيف حرية الصحافة وحماية الصحافيين فيها، منها على سبيل المثال الولايات المتحدة الأميركية التي تراجعت عشر درجات حسب نسخة 2024 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي أعدته منظمة “مراسلون بلا حدود”.
ولعل من نتائج الحرب أيضًا أنها فتحت المجال أمام تعمق أكبر في حقيقة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ببعده القانوني والإنساني والحقوقي، بعيدًا عن “التابوهات الدينية”، والأساطير التي استخدمتها إسرائيل خلال العقود السبعة الماضية، لإعاقة أي تحرك شعبي ضد سياسات الموالاة العمياء لدولتها الموعودة من الله، وهو ما نفهمه من مقولة المؤرخ إيلان بابيه الساخرة “معظم الصهاينة لا يؤمنون بوجود الله، لكنهم يؤمنون أنه وعدهم بفلسطين”.
ضمن هذا التحرّر الفكري من إسرائيل ورواياتها، تكمن أهمية مطالبة المتظاهرين بوقف مدّ إسرائيل بالسلاح، أي من فكرة الإيمان بسقوط حق استخدام العنف ضد الشعب الفلسطيني، تحت ذرائع متخيلة ومنها ما يدّعيه ساستها “الدفاع الاستباقي عن يهود العالم”.
*كاتبة سورية.