لم يكن سهلًا أن نشق طريقنا وسط الحشود كي نصل إلى شارع يمكننا منه أن نستقل سيارة أجرة لنصل في الموعد المقرر إلى شارع دياغونال المتقاطع مع شارع كورسيغا في وسط مدينة برشلونة، حيث كان عليّ أن أتواجد لأوقع كتابي (بانوراما الموت والوحشة) الذي نشرته مؤخرًا دار الأثير في برشلونة وترجمته مارغريتا كاستيلس سيبالس (تعلمت العربية في دمشق قبل سنوات عدة)، والكتاب هو من أوائل منشورات دار الأثير التي يديرها الكاتب الفلسطيني السوري الشاب محمد البيطاري بالتعاون مع فريق عربي وكتالوني، في مشروع يهدف إلى نشر الكتاب العربي في الإقليم الكتالوني الجميل. قلت لمصطفى، رفيقي في رحلة الوصول إلى حيث الخيمة التي نصبتها الدار: كما لو أنني في يوم المولد النبوي في حي الحسين في القاهرة، لم أر مثل هذه الحشود من البشر إلا هناك.
اليوم هو الثالث والعشرون من شهر نيسان/ أبريل الذي خصصته الأمم المتحدة ليكون اليوم العالمي للكتاب. أما في برشلونة فهو يتصادف مع اليوم الوطني لكتالونيا: سان جوردي، أو يوم الحب في كتالونيا، أما سان جوردي فهو قديس قتل التنين الغاضب الذي كان سيأكل ابنة الملك لولا تدخل فارس شجاع قتل التنين برمحه، وفي المكان الذي سال فيه دم التنين نبتت وردة حمراء قطفها الفارس وأهداها لابنة الملك الأميرة التي وقعت عليها القرعة لترمى للتنين، ومنذ ذلك اليوم صار الرجال الكتالانيون يهدون النساء ورودًا حمراء كل عام في الثالث والعشرين من شهر أبريل؛ لكن توافق المناسبة مع اليوم العالمي للكتاب لاحقًا، أضاف لأسطورة الوردة الحمراء الرومانسية بعدًا أكثر عمقًا، حيث صارت النساء تهدي الرجال كتبًا مقابل الورد الأحمر، غير أن ناشطات النسوية اعترضن على هذا التمييز الذي يضع عناوين توصيفية للرجل والمرأة، هكذا صار الرجال والنساء يهدون بعضهم بعضًا وردة حمراء وكتابًا في تأكيد على رفض التمييز الجندري لصالح المساواة والتشاركية.
يتوقف السير في معظم شوارع برشلونة في هذا اليوم، إذ تتحول الشوارع كلها إلى مكتبات مفتوحة ومشاتل لبيع الزهور، لا يتبقى سوى شوارع رئيسية قليلة متروكة لحالات الطوارئ. أما ما عدا ذلك فالمدينة كلها تحتفل، ويحتفل معها العدد المهول من السياح الذين يقصدونها للمشاركة في هذا المهرجان النادر والاستثنائي الذي يجعل المدينة كلها مغطاة بورد أحمر يكاد يرقص مع الموسيقى الإسبانية التي تعزف في كل مكان.
وصلنا أخيرًا إلى حيث الخيمة المخصصة لدار الأثير بعد أن عبرنا مشيًا شارعًا طويلًا فاخرًا جدًا تمتد خيم الكتب في منتصفه، لفتني أن الشارع هذا هو شارع تنتشر فيه محلات دور الأزياء العالمية الشهيرة (فيرزاتشي، برادا، شانيل، جورجيو أرماني، بيربري، كارتييه، لويس فوتون…)، حيث سعر قطعة ملابس واحدة يكفي لشراء مكتبة كاملة. لفتتني هذه المفارقة بين فلسفة الاستهلاك الرأسمالي التي تشكل دور الأزياء العالمية بأسعارها وعروضها وتنميطها للجسد الأنثوي، وبين فلسفة الثقافة والحب التي تمثلها خيمة مزينة بورود حمراء طبيعية وتعرض كتبًا أدبية وفكرية يقصدها رجال ونساء من كل الأعمار بأجساد على طبيعتها لا ترى حرجًا في عرضها لنفسها بما هي عليه وبما يكسوها من ملابس بسيطة لا تتفاخر إلا بمقدار الفرح وحب الحياة الذي تختزنه داخل لحمها ودمها.
سأعترف لكم: فاق حدث التوقيع توقعاتي المسبقة، حين دعاني محمد بيطاري للقدوم في هذا اليوم لتوقيع الكتاب، فكرت بأن الذهاب إلى برشلونة قد يكون فرصة للتعرف على هذه المدينة التي أسمع عنها كثيرًا ولم تتح لي زيارتها من قبل، وقد يكون أيضًا فرصة لمشاهدة الحدث الثقافي والوطني الأهم في المدينة، لكن توقيع كتاب لي في مدينة أوروبية لا أعرف بها أحدًا على الإطلاق لم أعتقد أنها قد تكون فكرة ناجحة، لكنني قبلت الدعوة وقدمت إلى برشلونة: أكثر مدينة مبهجة رأيتها في حياتي حتى الآن؛ المدينة التي منذ دخلتها وابتسامتي لا تفارق وجهي، كل ما فيها يدعو للبهجة، طقسها المتوسطي، ألوانها، طعامها، شرابها، لغتها السريعة ولغة أجساد أبنائها، حيث تشعر حين يتكلمون أو يضحكون أن كل خلايا أجسادهم تتكلم وتضحك، الوجه مرآة الروح كما يقال لكن في برشلونة كل شيء هو مرآة للروح الخفيفة الحرة التي تملكها هذه المدينة الآثرة.
وصلنا أنا ومصطفى متأخرين قليلًا عن الموعد بعد بحث طويل عن مكان خيمة دار الأثير وسط أعداد لا تحصى من الخيم (مصطفى شاب فلسطيني سوري يقيم في هولندا لكنه العقل الاقتصادي لمشروع الدار). “الناس تنتظرك منذ نصف ساعة لتوقعي لها الكتاب”، قال محمد الذي كان هناك ومنذ السابعة صباحًا. في بادئ الأمر ظننت أنه يمزح لكنه لم يكن أبدًا، كان هناك خمسة أشخاص ينتظرون وصولي لأوقع لهم ديواني ذا الغلاف الأنيق الذي صممه الفلسطيني رامي عباس، جلست في مكاني بعد أن تعرفت إلى فريق العمل: أوريول، دينامو التسويق البارع والمبهج وماريا، الشابة الجميلة التي تتصرف كما لو أن الكتب المعروضة هم أشقاؤها، كان سبقني أيضًا الكاتب الفلسطيني مجد كيال القادم من حيفا لتوقيع روايته الصادرة عن الدار بنفس التوقيت، ثم التحق بنا المسرحي الشاب عبد الرحمن القلق قادمًا من ألمانيا لنفس الغاية. باقات الورد الأحمر على الطاولة إحداها كانت لي.
الطقس كان ساحر الجمال، هو تمامًا ما أحبه في هذا الوقت في المدن المتوسطية، لم يبدأ بعد الحر المصحوب برطوبة لا أطيقها، ولا أثر لبردها الشتوي الشديد، نحن في الربيع تمامًا، أو لنقل إن ما شعرته أنا هو إحساس الربيع، أظن أن أرواحنا في لحظة ما تنعكس على إحساسنا الطبيعي بالمحيط حولنا، روحي في هذا اليوم كانت شابة أنا التي أقترب من الستين بخطوة واحدة، شابة وخفيفة خفة الربيع، كنت سعيدة، باختصار شديد، وممتلئة بدهشة اكتشاف كل ما حولي.
بدأ الناس يتوافدون إلى الدار، يمسكون كتابي يفتحونه ويقرأون منه، كنت أراقب تعابير وجوههم، لا أخفيكم، مع كل تعبير إعجاب رأيته كان مؤشر ثقتي بنفسي يرتفع، ومعه يرتفع امتناني للحياة التي تعطيني هذا الجمال. لا أعرف كم كتابًا وقعت، لكن الوقت الذي قضيته دون أن أمسك القلم وأوقع كان أقل بكثير من الوقت الذي لا أفعل به شيئًا. الوقت الذي قضيته بالرد على أسئلة الناس أيضًا حول الكتابة وحول الشعر وحول سورية. لا وصف لهذا اليوم حقًا، لا وصف للطاقة الإيجابية التي نقلتها لي حشود الناس، ثقتهم بالكتابة، طريقة تعاملهم مع الكتاب، لمعة أعينهم حين يكتشفون أن كاتب هذا الكتاب أو ذاك موجود بينهم. القبلة التي تبادلها عاشقان أهديا بعضهما للتو كتابين ووردتين، ابتسامة تلك الفتاة التي طلبت مني أن أوقع الكتب باسم والدتها العاشقة للشعر، نظرة الدهشة التي أبدتها سيدة قرأت مقطعين من الكتاب ثم طلبت توقيعي وهي تسألني: أنت تتكلمين عني؟ فتاة تتعلم اللغة العربية وتحدثني بعربيتها المكسرة الجميلة وهي فخورة، شريكان طلبا مني أن أكتب اسميهما معًا على الكتاب وهما متعانقان، الشاب السوري بابتسامته الدافئة الذي رأى بثًا مباشرًا على صفحة الدار على الإنستغرام فجاء برفقة شريكه فخورًا بإعلانه هويته الجنسية أخيرًا في بلاد تحترم كل أنواع الاختلاف. هذا اليوم بكل ما فيه لم يكن ليحدث لولا احترام الجميع للحريات، الفردية والعامة، ولولا قبول الاختلافات بكل أنواعها، ولولا النضالات الطويلة للمجتمعات لتحصل على حقوقها. في بلادنا يحبسون الكتب في المعارض ضمن أمكنة ضيقة تشبه ضيق الحريات فيها. بينما الفكر والثقافة مثل الحب يحتاجان للضوء وللهواء وللمساحات الواسعة، يحتاجان إلى الشارع ليكونا في وسط الناس، متاحان للجميع، هكذا فقط تصنع المجتمعات هوية خاصة بها، بالحرية التي يملكها الجميع دون تمييز.
ما الذي يختلف في هذا اليوم عن توقيعات كتبي السابقة التي شهدت أيضًا حضورًا كثيفًا؟ كنت أتساءل وأنا عائدة في سيارة أجرة لم يستطع سائقها أن يوصلني إلى مكان الفندق تمامًا بسبب إقفال الطرقات للاحتفال (في بلادنا تقفل الطرقات حين يمر مسؤول ما فقط أو لأسباب أمنية). نزلت ومشيت قليلًا لأجد نفسي وسط ساحة ممتلئة بالناس من كل الأعمار يرقصون على موسيقى تعزفها أوركسترا كبيرة في قلب الساحة. الناس متحلقون حلقات متعددة، بترتيب واحد، امرأة تمسك بية رجل يمسك بيد امرأة أخرى وهكذا، عدد النساء مساو لعدد الرجال، والخطوات بسيطة، رأيت مجموعة تبحث عن امرأة ليكتمل العدد ذهبت مباشرة إليهم، رغم ما كنت أشعر به من إرهاق، طلبت منهم أن يعلمونني الخطوات، قالوا لي هذه اسمها (ساردانيس) وهي الرقصة الوطنية لمقاطعة كتالونيا، أخبرتهم عن الدبكة لدينا، كان بعضهم يعرفها.
أكملت طريقي وأنا أفكر بنفس السؤال: ما الذي يختلف عن التوقيعات السابقة؟ من حضروا تواقيعي السابقة، يعرفونني أو يعرفون أصدقاء لي، هناك عامل شخصي للحضور أو لشراء الكتاب واقتنائه يتفوق على عامل الشعر، نحن في بلادنا كثيرًا ما نشتري كتبًا لعلاقة شخصية مع كتابها. في برشلونة كان الأمر مختلفًا: أنا لا أعرف أحدًا هنا ولم يسمع بي أحد ولا يعرفني أحد، اشتروه لأنهم وجدوا في الشعر ما لفت انتباههم، ما مسهم شخصيًا، التفوق هنا للشعر، لقيمة الشعر، لمعناه، لهويته هو لا لهوية وشخصية كاتبته. هذا فارق نوعي يجعل أي شاعر يفاخر به. وصلت غرفتي وأنا أحلم بالنوم بعد هذا اليوم الطويل لكن صخب الفرح في الشارع كان كفيلا بتغيير رأيي، بدلت ملابسي ونزلت إلى الشارع كي أكمل الليلة حتى آخرها.