روماف – رأي
جان كورد
منذ أن جرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سوريا، والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه على المراقب الكوردي لأحداث البلاد هو:
كيف ستكون العلاقة بعد الآن بين ممثلي الشعب الكوردي على اختلاف مذاهبهم السياسية والعاصمة السورية دمشق، والكورد رغم مضيّ عقدٍ من الزمن على الأحداث الدموية في هذه الزاوية من العالم لم يتوصلوا فيما بينهم إلى الحد الأدنى من الوفاق الوطني – القومي بعد؟
الإجابة عن هذا السؤال ليس سهلاً، فإن سوريا تمرّ في أزمةٍ سياسية، اقتصادية واجتماعية لا مثيل لها في تاريخها منذ أن نشأت كدولة ذات سيادة ودستور وبرلمان وحدود وقوات عسكرية وأمن داخلي وقضاء وكل ما تحتاجه الدول الحديثة من عملة وطنية وممثليات دبلوماسية وثروات ومعاهدات مع العالم الخارجي، وهذه الأزمة متشابكة بسبب تواجد قوى أجنبية عسكرية عديدة على أرضها، أمريكية ومعها حلفاؤها في الشمال الشر قي من البلاد، تركية ومعها مرتزقتها في وسط الشمال (سرى كانيى، كرى سبي) وشمال غربه (جبل الكورد)، وقوات روسية في وسط البلاد وساحله على البحر الأبيض المتوسط، وإيرانية مع فصائلها المسلّحة بآيديولوجية طائفية متطرّفة في العديد من أنحاء سوريا ، وعلى الأخص حول العاصمة وفي جنوب البلاد. وكما أن النظام السياسي في البلاد مشلول الأطراف، ضعيف الإرادة وغير قادر على الخروج بقواه الذاتية من هذه الأزمة بسبب العقوبات الكثيرة عليه من قبل المجتمع الدولي، وأخطرها “قانون قيصر” الذي أقرته السياسة الأمريكية، وبسبب عدم الإعتراف العالمي بشرعية الانتخابات الرئاسية لخروجها على القرار الدولي الخاص بالمرحلة الانتقالية في البلاد. وهذا يعني أن النظام لن يتمكّن من إعادة إعمار البلاد، طالما حلفاؤه الروس والإيرانيون وعدوّه التركي، بل والدول العربية غير مستعدّة لمد يد العون له في الخروج من البئر العميق الذي سقط فيه منذ رفضه الجلوس إلى المعارضة الوطنية السورية التي تحوّلت مع الأسف إلى تابعٍ مطيعٍ للذين لهم مآربٌ ومصالحٌ في إبقاء الأوضاع على ما هي عليه لفترةٍ طويلة من الزمن… وسوريا معزولة حتى من جيرانها وأشقائها ومحرومة من ثرواتها…
الواقع السوري مؤلم ، وسيظل هكذا ما لم تتفق القوى العالمية الكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا والاتحاد الأوربي على مساعدة الشعب السوري للتخلّص من هذه الأزمة، وهذا يعني استمرار النظام والمعارضة في سياسة التغيير الديموغرافي وعلى وجه الخصوص في المنطقة الكوردية شمال البلاد من قبل الحكومة التركية التي لا تخفي عداءها التام لكل إنجازٍ سياسي أو إداري للكورد بهدف الوصول إلى الحق القومي لشعبهم في الحرية والديموقراطية والأمن والاستقرار. كما يعني اشتداد الضيق الذي يعيشه السوريون والمزيد من الخوف من المستقبل للأجيال الناشئة وارتفاع حدة التطرّف والكره المتبادل بين فئات الشعب واتساع دائرة التربّص بالدولة واستمرار الهجرة من البلاد… والأزمات تلد الأزمات…
إلاّ أن أمراً واحداً لن يتغيّر هو أن أي حلّ للقصية الكوردية في سوريا لن يكون إلاً في التفاهم والتوافق والتعاون بين ممثلي الشعب الكوردي والحكومة المركزية في دمشق، سواءً بقي نظام العائلة الأسدية حاكماً أو تسلّم آخرون الحكم من بعدها. هذه حقيقة لا يستطيع التهرّب منها أحد، والدول العظمي تدرك ذلك، وها نحن نجد ما عليه إخوتنا الكورد في اقليم جنوب كوردستان، فلقد ظل زعماء الكورد يترددون على بغداد التي قصفتهم بالسلاح الكيميائي وقتلت منهم مئات الألوف وحكمتهم بالنار والحديد عقوداً من الزمن، كما نتذكّر كيف وقف العالم المتمدّن، وفي مقدمته حلفاء الكورد كالأمريكان والانجليز وغيرهم، ذات الوقفة تجاه “استفتاء الاستقلال” الذي جرى في الاقليم، ديموقراطياً وسلمياً، وحظي مؤيدو الاستقلال على أكثر من 92% من أصوات الكورد الذين اعتبروا ذلك اليوم أحد أهم إنجازات قياداتهم السياسية في تاريخهم الحديث. وأصرّ الحلفاء أكثر من أعداء الكورد على ضرورة البقاء في إطار الدولة العراقية التي أنشأها المستعمرون البريطانيون أنفسهم في الربع الأوّل من القرن الماضي بعد ضم “لواء الموصل” ذي الأغلبية الكوردية إليه وجلب ملك من الأردن ليحكم “العراق الجديد!”.
في هذا الواقع المرير لسوريا، نجد أن الكورد قد تكاسلوا حقاً، فحتى أنهم لم يتمكّنوا من تحقيق وفاقٍ قومي فيما بينهم، رغم أن أهم دولةٍ غربية، الولايات المتحدة الأمريكية، تحاول جاهدةَ منذ عامين إنجاز اتفاق بينهم، ففشلوا في الدفاع المستمر عن مناطقهم في وجه الاحتلال التركي الذي يستهدف وجودهم القومي برمته، كما فشلوا في تحقيق الحد الأدنى من الاتفاق الداخلي الذي من دونه لا يستطيع أحد أن يمثّل الشعب الكوردي في دمشق ويسعى لعقد اتفاقٍ ما مع الحكومة المركزية يحظى بقبول هذا الشعب… إذاً فنحن بصدد أزمة كوردية كما للنظام أزمات… والأزمة الكوردية ستكون الأخيرة قبل الانهيار والاندثار، إن لم يتحرّك عقلاء هذا القوم لتدارك الأمر وتحقيق الوحدة الداخلية التي لا بد منها لدحر الأعداء وكسب الأصدقاء وتقوية الذات.
هناك نقطة هامة يتفق عليها الكورد ضمناً بأغلبية ساحقة، وهي أنهم -ربما دون استثناء- يعلمون بأن إمكانية إقامة كيانٍ مستقلٍ لهم في شمال سوريا من المستحيلات في هذا الوقت، وهم في الواقع متفقون سياسياً أيضاً بأن “الحل في دمشق”، بغض النظر عمن يحكم هناك.
فما العمل؟
لذا، أرى أن من الضروري عقد لقاءاتٍ متتالية بين مثقفي الشعب الكوردي في داخل سوريا وخارجها للبدء بنقاشٍ جاد وواضح الهدف بصدد العلاقة بين ممثلي هذا الشعب وبين النظام والمعارضة على حدٍ سواء لأننا لا نعلم بعد لمن سيكون النصر ومن هم الذين سيرفعهم المجتمع الدولي إلى سدة الحكم. وفي الحقيقة لا بد من أن يبذل المثقفون من مختلف التيارات السياسية – الفكرية جهوداً حثيثة في سبيل توحيد الموقف القومي الكوردي من هذه المسألة الهامة: العلاقة بين الكورد والحكومة المركزية، فإن الأحزاب الكوردية ضعيفة وغارقة في اتهاماتها المتبادلة وانشظاراتها وولاءاتها وتشرذمها… وإذا كان البعض يظن أن السلاح وحده هو الذي يحدد من يمثل الشعب فهذا هراء، فلم ينفع السلاح النازيين ولا امبراطورية روما وآل عثمان وقيصر روسيا ولم ينفع المستعمرين في الشرق الأوسط، كما لم ينفع صدام حسين…
الوصول إلى وحدة الخطاب القومي الكوردي غير منوطٍ بقوة حزبٍ من الأحزاب أو زعيمٍ من الزعماء وإنما بوحدة إرادة الشعب الكوردي التي هي أمضى سلاح في الحرب والسلم، وبوحدة الموقف القومي يمكن تحقيق إنجازٍ ما في دمشق.