العربي الجديد
تسعى معظم جماعات المعارضة السورية الناشئة حديثاً، وغير المحسوبة على الكيانات الرسمية للمعارضة، إلى رسم خريطة طريق جديدة، وآليات عمل جديدة، بما يمكّنها من تعزيز وجودها، وفرض دورها، في واقع صعب، ومعقّد على الصعيدين المحلّي والدولي. ويتضمّن هذا حال التشتت، والتمزّق، التي يعيشها السوريون في بلدان اللجوء والشتات، وهو ما ينطبق على الداخل، بعد تمزّق الجغرافية السورية إلى أربع مناطق نفوذ، منفصلة عن بعضها، حيث تتبع كل منطقة الطرف الدولي أو الإقليمي الذي يحمي من فيها.
نشأت الجماعات المذكورة ردّة فعل على فشل كيانات المعارضة الرسمية، السياسية والعسكرية والخدمية، التي نشطت طوال الأعوام الـ 12 الماضية، ما يحمّل الجماعات، أو الكيانات الوليدة، مسؤولية مضاعفة، إذ عليها إيجاد طرق عمل، وخطابات، جديدة وجاذبة ومقنعة، كما عليها أن تنتشل السوريين من حال التمزّق والضياع وفقدان الثقة، نتيجة إخفاق تجربة المعارضة السورية، التي تمثلت في المجلس الوطني، ثم في الائتلاف الوطني والمنصّات المنوّعة.
مع معرفة أن هذه التجمّعات المحدثة تشتغل بعد انحسار زخم الثورة السورية، وبعد أن باتت مسارات المعارضة، وكياناتها الرسمية، محكومة بإرادات الأطراف الخارجية، ما يجعل الجماعات الوليدة، في محاولتها فرض ذاتها، في مواجهة تحدّيين: المعارضة الرسمية، وضمنها فصائلها العسكرية، بما يتضمّن كل إنتاجها من أدوات تنفيذية وإعلامية. والأطراف الإقليمية التي تهيمن على أطراف المعارضة بكل مسمّياتها، والتي قد تتعارض مصالحها مع خطاب سوري ببوصلة سورية فقط.
ولعل أكبر مشكلة تواجه تلك الجماعات الناشئة تنبع من واقع انغلاق الأفق أمام أي حلٍّ للصراع السوري، في المدى المنظور، بسبب التخلي الدولي عن مسعى فرض حل سلمي وعادل ومتوازن للصراع الدائر منذ 12 عاماً، وإحلال الاستقرار المأمول في سورية، وتخليق نظام سياسي قادر على تلبية طموحات السوريين، في نظام سياسي يكفل الحرية والمساواة لعموم المواطنين.
الشرعية الشعبية هي التي تقوّي مكانة المعارضة وتعزّز شرعيتها الخارجية وليس العكس
مع كل الاعتبارات السابقة، لا بد من لفت الانتباه، أيضاً، إلى مسألتين، لا بد لتلك الجماعات أن تأخذ كلا منهما بالاعتبار لتأكيد وجودها وفاعليتها. الأولى، تتعلق باكتساب الشرعية، وهو الأمر الذي يطرح ماهية الشرعية المطلوبة، أو مصدرها، ذلك أن كيانات المعارضة الرسمية، فيما مضى، استطاعت نيْل اعتراف أطراف دولية وعربية، لكنها محلياً، وبسبب طريقتها الفوقية في العمل، وانغلاقها وعدم إشراك ممثلين حقيقيين عن فئات الشعب، وبسبب تحويل عملها من ثوري إلى وظيفي “نفعي”، وقصور خطاباتها، خسرت الشرعية الداخلية، أي التي تأتي من شعبها، بحيث بات ثمّة فجوة كبيرة بين المعارضة السورية، بكياناتها السياسية والعسكرية، ومجتمعات السوريين في الداخل والخارج. على ذلك، الجماعات الوليدة معنية بتلافي ذلك، وعدم الوقوع في فخ استسهال، أو اللهاث، وراء شرعية دولية أو عربية، لأن الشرعية المُرتجاة هي الشرعية الوطنية، التي تصدُر عن الشعب السوري، وهذه لا يمكن أخذها إلا بالتمسّك بحقوق الشعب السوري، واحترام تضحياته، وضمان مقاصده النبيلة التي اندلعت الثورة السورية من أجلها، والمتمثلة بتحقيق التغيير السياسي المنشود، نحو قيام دولة قانون ومؤسّسات ومواطنين متساوين في الحقوق، في نظام سياسي ديمقراطي يكفل فصل السلطات، والتداول السلمي على السلطة، وضمان تحقيق العدالة الانتقالية، مع ملاحظة أن الشرعية الشعبية هي التي تقوّي مكانة المعارضة، وتعزّز شرعيتها الخارجية وليس العكس. وهذا لا يعني الدعوة إلى التخلّي عن قيادة الشارع نحو العقلنة، وطلب الممكن، والتعاطي مع القضايا بمنطق السياسة، وليس بمنطق الشعارات الشعبوية الفضفاضة التي لا تثمر إلا مزيداً من هدر الوقت والدم.
أما المسألة الثانية، والتي يُفترض أخذها بالاعتبار، فهي تتمثل بضرورة سعي تلك الجماعات إلى التعاون المشترك، من أجل تخليق حالة وطنية سورية جامعة، وهذا لا يتأتّى فقط من خلال البيانات التي تصدُر وتتحدّث عن ذلك فقط، وإنما يفترض ترجمة ذلك إلى واقع عملي، من خلال إيجاد منابر جامعة، ومن خلال التشبيك بين الجماعات المتماثلة، بنبذ “الدكاكينية”، والاحتكار، والوصاية، والاعتراف بالآخر، والعمل بأفق وطني مشترك، يخدم المصلحة العامة، ولا يخدم المصالح الشخصية.
الاستمرار على هذا النحو الإشكالي لن يؤدّي إلى ملء الفراغ السياسي الحاصل بين السوريين
نشأت في السنوات القليلة الماضية جماعاتٌ عديدة، كل واحدة منها عقدت ندواتٍ عديدة، وأصدرت أوراق عمل، ووجهات نظر، جيّدة، ومناسبة، وصائبة، بيد أن المشكلة لا تكمن فيما تقوله أو تكتبه، وإنما في أن كل واحدة من تلك الجماعات تتمحور حول نفسها، أو حول الأشخاص المؤسّسين لها، أو تكلف نفسها ما يفوق قدراتها عبر شعاراتٍ فضفاضة وأهداف لا سبيل لتنفيذها، على الرغم من أن أي مراجعة متأنية للبيانات والمذكّرات الصادرة عن كل ندوة، أو اجتماع، تؤكّد التشابه في المنطلقات، والسياسات، والأهداف.
وبديهي أن هذه المعضلة يُفترض تجاوزها، لأنها لا تفيد عمل كل جماعة، كما لا تفيد العمل العام، بمعنى أن أي جماعة لن تستطيع، في هذا المناخ، مهما كان حجمها، وإمكاناتها، أن تفرض ذاتها وحدها، ما يفيد بأن الاستمرار على هذا النحو الإشكالي لن يؤدّي إلى ملء الفراغ السياسي الحاصل بين السوريين، ثم إن استمرار وضع كهذا سيكبح مزيداً من الدول والمنظمّات الدولية عن دعم أهداف الثورة السورية، وسيُبقي جماعات المعارضة الوليدة تحت ضغط المعارضة الرسمية وضغط الأطراف الإقليمية.
يحمّل كل ما سبق هذه الكيانات مسؤولية شقّ طريقٍ التلاقي على هدفها، وإنتاج خريطة طريقٍ تتقاطع فيها أولويات السوريين، وفق الممكن والمتاح، علّها تنجح في إنتاج ما أخفقت به الكيانات الرسمية، وجعلها تراوح في مكانها تحت عباءة داعميها منذ تأسيسها، من دون أي تطوير في آلياتها، فهل نأمل أننا على أبواب ناتج عمل من شأنه أن يلملم شتاتنا ويبدّد إخفاقاتنا؟