لم تتضمّن إحاطة لغير بيدرسون (المبعوث الأممي الخاص بالملف السوري الذي نسي العالم تقريباً اسمه) أخيراً أمام مجلس الأمن أيّ مُؤشّرات تفاؤلية بشأن إمكانية التوصّل إلى حلّ ما يضع حدّاً لمعاناة السوريين المُستمرّة منذ أكثر من 13 عاماً؛ وهي المعاناة المفتوحة التي كانت حصيلة جملة من السلبيات والمظالم، تراكمت خلال الحكم الأسدي الممتدّ منذ أكثر من نصف قرن، توزّعت بين مرحلتي الأب والابن.
ورغم الوعد الذي لوّحت به مندوبة الولايات المتّحدة في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفيلد، من جهة استعداد بلادها لإعادة النظر في العقوبات المفروضة على سلطة بشّار الأسد إذا ما دخلت في مفاوضات جادّة مع المعارضة، وذلك بهدف التوصّل إلى حلّ، إلّا أنّ المُؤشّرات والمعطيات المتوفّرة لا توحي بأيّ إمكانية من هذا القبيل؛ لأنّ النهج الثابت للسلطة الأسدية منذ أيام الأب، وبالتنسيق مع الحلفاء والرعاة، يقوم على مبدأ عدم تقديم أيّ تنازل للشعب السوري، أو الإقرار بحقّه المشروع في حياة حرّة كريمة، في ظلّ نظام عادل، يضمن مقوّمات العيش اللائق لسائر المواطنين، ويطمئن الجميع من ناحية الاعتراف بالخصوصيات، والاعتراف بالحقوق المشروعة لسائر الانتماءات الفرعية المجتمعية السورية، التي يضمّها الانتماء السوري العام الجامع. فالسلطة الأسدية ما زالت تحلم ببسط هيمنتها على كامل التراب السوري، وإخضاع جميع السوريين لاستبدادها وفسادها، وكأنّ شيئاً لم يكن، بل تتفاخر وتتبجّح في مختلف المناسبات بأنّها تمكّنت من الانتصار على قوى كونية كانت تهدّد وجودها، وتعمل على إسقاطها. هذا مع أنّ جميع المتابعين للوضع السوري أو المقربين من دائرة القرار يعلمون أنّ من تتهمهم السلطة المعنية أو تتحدّث عنهم، لو قدّموا للشعب السوري 10% مما قدمته كلّ من إيران وروسيا للسلطة المعنية، لكانت هذه الأخيرة قد تلاشت منذ زمن بعيد.
يبدو أنّ الدول العربية التي دعت بشّار إلى قمّتَي الرياض والمنامة ما زالت تراهن على إمكانية إبعاد إيران عن موقع المُؤثّر في بشّار
ولكنّ الذي بدا واضحاً بصورة مُبكّرة هو عدم وجود إرادة دولية للسماح بانهيار سلطة بشّار الأسد، وإنّما كلّ ما كانت الدول المُؤثّرة تريده هو تعديل سلوك بشّار وسلطته، وهو الأمر الذي أدركه الأخير منذ اللحظات الأولى للثورة. لذلك، مارس كلّ الأساليب الوضيعة، واستخدم جميع أنواع الأسلحة، بما في ذلك الكيماوية منها، ضدّ الشعب السوري، وهو على ثقة تامّة بأنّه لن يتعرّض لأيّ عقاب. وحتّى يضمن نفسه أكثر، فتح البلاد أمام قوّات الحرس الثوري الإيراني وأذرعه المذهبية في كلّ من لبنان والعراق، وحتّى من أفغانستان، وربّما من باكستان وغيرها.
ويبدو أنّ جملة من الدول العربية، التي كانت قد أعلنت وقوفها إلى جانب المطالب العادلة لثورة الشعب السوري على استبداد سلطة آل الأسد وفسادها، قد وصلت إلى قناعةٍ تامّةٍ بعدم وجود رغبة أو إرادة دولية في تغيير السلطة في سورية، هذا بالإضافة إلى معاناتها من التدخّلات الإيرانية عبر أذرعها في شؤونها. ولذلك، قرّرت الانفتاح على السلطة المعنية، سواء عبر الزيارات أم بتجديد العلاقات الدبلوماسية، أو رفع مستواها. وأخيراً، كان التوافق العربي على إعادة سلطة بشّار الأسد إلى جامعة الدول العربية على أمل إبعادها بعض الشيء عن النفوذ الإيراني؛ وهو الأمر الذي ما زال في عداد المشكوك فيه، وذلك للوشائج القوية التي تربط بشّار الأسد، شخصياً، بالنظام الإيراني. ولعلّ هذا ما لاحظه المُهتمّ في هذا الموضوع من متابعته زيارة بشّار الأسد طهران أخيراً لتقديم التعازي بوفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والتصريحات التي أطلقها في أثناء لقائه المُرشد علي خامنئي، وتصريحات الأخير نفسه. ومع ذلك، يبدو أنّ الدول العربية التي دعت بشّار الأسد إلى قمّتَي الرياض والمنامة ما زالت تراهن على إمكانية إبعاد إيران عن موقع المُؤثّر في بشّار، أو على الأقلّ تخفيف حدّة هذا التأثير، وتمهيد الطريق أمام الحلول الوسط، رغم أنّ التوقعات الخاصة بهذا الموضوع برمته ما زالت في عداد المجهول البعيد. ولكن اللافت في هذه الأجواء جاء متمثّلاً في تصريحات رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني بشأن وجود مساعٍ عراقية للتوسّط بين تركيا وسلطة الأسد، وذلك بعد تجربة الوساطة التي قام بها العراق بين السعودية وإيران، بهدف تخفيف حدّة التوتّر الإقليمي، الأمر الذي ربّما يكون في مصلحة العراق في المقام الأول، وهو الذي يشكو، راهناً، من منافسة إقليمية، باتت علنية إلى حدّ كبير، بين كلّ من إيران والعراق، الأمر الذي يُهدّد الاستقرار الداخلي العراقي، ويقطع الطريق أمام عملية تنموية حقيقية واعدة يمتلك العراق كلّ شروطها المادّية، إذا ما توفّر الاستقرار الأمني والسلام المجتمعي المطلوبَين لأيّ عملية تنموية فعلية مُثمرة.
وبالتوافق مع هذه التحوّلات والمتغيرات كلّها، أعلن الأسد موعد إجراء انتخابات مجلس الشعب في 15 يوليو/ تموز المُقبل، وهو في الأساس مجلس صوري لا يتجاوز دورُه الطابع التزييني، ولا تتعدّى وظيفته مستوى إضفاء قسط من الشرعنة على سلطةٍ لم تمتلك الشرعية قط، منذ بداياتها خريف عام 1970. وفي مقابل هذه الانتخابات، أعلنت سلطات الأمر الواقع في شمال شرق سورية، التي تلتزم أوامر حزب العمّال الكردستاني وتعليماته، قرارها الخاص بإجراء الانتخابات المحلّية. ومن يدري، فربّما يُفكّر زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني بخطوة مماثلة تحت شعار “ما في حدا أحسن من حدا”؛ وهذا ما يُؤكّد أنّ الانتخابات الشكلية الموجّهة لمصلحة السلطة المُتحكّمة قد باتت هي الأخرى مُجرّد “موضة” رائجة، الغاية منها التغطية على الممارسات الديكتاتورية الفاسدة بأشكالها المختلفة.
ورغم كلّ شيء، يُلاحَظ أنّ اللوحة السورية ليست قاتمةً حالكةَ السواد بالمطلق، بل هناك أكثر من أمل في مختلف المناطق السورية تُؤكّد أنّ السوريين قد أدركوا بصورة يقينية أنّ السلطة الأسدية عاجزة عن توحيد البلاد مُجدّداً، وغير قادرة على إدارة شؤونها، وبعيدة كلّ البعد عن إمكانية مراعاة أوضاع السوريين وخصوصياتهم. فانتفاضة السويداء مستمرّة منذ نحو 11 شهراً (انطلقت في 17 أغسطس/ آب 2023)، وهي تزداد ترسّخاً واتساعاً، وحرصاً على التمسّك بالشعارات والرموز والثوابت الوطنية، التي تُوحّد السوريين رغم كلّ الجراح. كما أنّ التحرّك الشعبي المناهض لإدارة الجولاني في مناطق الشمال الغربي يُؤكّد رفض السوريين كلّ مظاهر التسلّط والتحكّم واللصوصية باسم الثورة، وذلك كله يُبشّر بمستقبل واعد، سيتحقّق بفضل إرادة الجيل السوري الشاب، وأجيالنا المُقبلة.
الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزّة قد همّشتا إلى حدّ كبير الوضع السوري وأبعدتاه عن دائرة الاهتمام
وفي المناطق الشرقية والجزيرة، هناك تململ واضح لدى المواطنين على اختلاف انتماءاتهم المجتمعية من تصرّفات سلطات الأمر الواقع، فهاك رفع مستمر في أسعار المواد التي تبيعها السلطة، بينما تخفّض أسعار المحاصيل الزراعية، لا سيّما أسعار محصول القمح. هذا، في حين أنّ الخدمات شبه معدومة، ويعاني الناس الأمرَّين من انقطاع التيار الكهربائي والمياه، والشحّ في مادّتَي الغاز والمياه. والوضع ليس بأفضل حالاً في مناطق الساحل، حيث بلغ عدم الرضا والتململ بين المواطنين، هناك، من ممارسات وسلوكيات آل الأسد، والشبيحة المُستفيدين منهم والمصفّقين لهم، الذروة، وقد تفاقم هذا التملل مع تزايد النفوذ الإيراني في المجتمع السوري، وهو نفوذ لم يعد يقتصر على الجانب العسكري، بل هو متشعّب مُتغلغل يتحكّم في المجتمع وتربية الأطفال واليافعين، بل يشمل عمليات غسل الأدمغة، الأمر الذي سيُؤثّر مُستقبلاً في توجّهات الأجيال السورية المُقبلة وسلوكياتها. ويؤكد ذلك كلّه أنّ البون بين الأوضاع الحالية في مختلف الجهات السورية والاستقرار المستقبلي المنشود ما زال شاسعاً. صحيح أنّ الثورة السورية، لأسباب كثيرة، منها داخلية بنيوية، وأخرى إقليمية ودولية، لم تحقّق أهدافها الأساسية، ولكنّ سلطة الأسد لم تنتصر هي الأخرى، وما زال المصير السوري خاضعاً لمشيئة القوى الدولية والإقليمية المُؤثّرة وحساباتها، خاصّة الولايات المتّحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل.
وهنا، لا بد أن نقرّ بحقيقة أنّ الحرب الروسية على أوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على غزّة، قد همّشتا إلى حدّ كبير الوضع السوري، وأبعدتاه عن دائرة الاهتمام الإعلامي في المستويين الاقليمي والدولي، وقطعتا الطريق على إمكانية حدوث توافق دولي إقليمي لمعالجته ودفعه نحو حلّ مقبول مُستدام. وعلى الأرجح، ستستمرّ هذه الوضعية بعض الوقت ريثما تصل القوى المعنية إلى توافقات بخصوص الوضع الأوكراني، وترتيب الأوضاع في أوروبا، والوصول إلى حلّ مقبول في فلسطين. وحينئذٍ، قد تكون سورية جزءاً من التفاهمات والمصالحات التي قد تحدث، أو قد يكون الوضع السوري جزءاً من عملية بناء الثقة، وذلك تمهيداً لمقاربة جادّة للأزمة المُستعصية بين روسيا وأوكرانيا. غير أنّه، في جميع الأحوال، لا تعني هذه الاحتمالات أو التوقّعات إعفاء السوريين المناهضين لسلطة الأسد من مهامّهم، التي تتمثّل في الدرجة الأولى في تجاوز الخلافات وتعزيز الوحدة، والإقرار الواضح الصريح بالخطاب الوطني السوري الجامع في إطار مشروع وطني سوري متكامل، مشروع يطمئن سائر السوريين من جميع الانتماءات والتوجهات، وفي سائر الجهات، ومن دون أيّ استنثاء.