عبد الرحمن كلو
في معرض الجدل القائم الذي أثير حول خارطة كوردستان المرسومة مع صورة رمزية للبابا فرانسيس على مشروع طابع بريدي لتخليد ذكرى زيارة قداسته لإقليم كوردستان, لا بد من التوقف عند الخارطة والتعريف بها قبل أي حديث, أهي خارطة دولة , أم هي خارطة وطن ؟ أم هي خارطة ديموغرافية ؟ إذ هناك فرق كبير بين المفاهيم الثلاثة , فإذا ماكانت خارطة دولة بحدود متنازع عليها مع دولة بالجوارالإقليمي, كمثل خارطة الدولة السورية التي تتضمن لواء إسكندرونة, فيمكن مناقشة الموضوع في إطار المنازعات والخلافات الحدودية الدولية, وهي قائمة بين تركيا وإيران أيضاً, لكن ورغم وجود أكثر من خلاف حدودي بين تركيا من جهة وبين إيران وسوريا من جهة أخرى إلا أن الخلافات الحدودية لم تثار في أية مناسبة, فكل طرف يرسم الخرائط وفق طموحه وغرائزه التوسعية، فسوريا البعث ترسم حدود الوطن العربي المزعزم شمالًا باتجاه جنوب تركيا بحيث تشمل كل جغرافيا شمال كوردستان بما ذلك ديار بكر (آمد) ورغم ذلك كانت العلاقات التركية – السورية كانت جيدة ولم تعترض تركيا على الخارطة البعثية التي كانت تستقطع ربع مساحة تركيا الحالية, بالإضافة إلى اللواء, هذا إلى جانب خارطة الميثاق المللي التركي التي تستقطع مناطق واسعة من سوريا والعراق وإيران وأرمينيا وحتى جيورجيا, وتلك الخارطة مازالت في عهدة السياسة الخارجية التركية، وهي بمثابة عهد ملزم لأي حكومة تركية، وعليه تبجح أردوغان أكثر من مرة واستشهد بالميثاق المللي في سياق أحاديثه عن مشروعية تدخله في سوريا والعراق, ورغم ذلك فردود الأفعال العربية بخصوص هذه التهديدات لم تتجاوز الفقاعات الإعلامية, مع صمت إيراني، إذًا نحن أمام موضوع آخر مختلف عن كل ما سبق ذكره, والموضوع ليس خلافًا حدوديًا بل هو خلاف وجودي من نوع آخر، خلاف على هوية جغرافيا بشرية. خلاف على مشروعية تاريخية لتلك الجغرافيا البشرية، حيث ترفض تركيا القبول به في الجانب التاريخي أولًا وفي الجوانب الجغرافية البشرية السياسية ثانيًا، ولا تقبل به حتى إسمًا لأن الإسم أو الصفة ربما يكون مدخلًا لأبواب أخرى تؤدي إلى متاهات تاريخية هم بغنىً عنها, فهي إذ ترفض تسمية إقليم كوردستان بإسمه رغم دستورية الإقليم في دولة العراق الفيدرالية المجاورة لها, والذي هو خارج أراضي الدولة التركية، بمعنى أنها تعارض التسمية حتى إذا ماكانت خارج الحدود الدولية التركية، وتصر على تسميته بإقليم شمال العراق أو الإقليم الكوردي, هذا في الوقت الذي كان من المفترض أن تحترم سيادة العراق ودستورها كدولة مجاورة وصديقة كما تدّعي, إذًا فالخلاف التركي هو مع التاريخ والجغرافيا معًا بخصوص الوجود القومي الكوردي, وهو يكمن في خطورة الجغرافيا السياسية لكوردستان على الكيان التركي الدخيل على المنطقة, لأن هذا الكيان القائم هو كيان غازي أنشأ على حساب أوطان الشعوب الأصلية لتركيا الحالية, لذا فالقبول بالتاريخ والجغرافيا يعني إلغاء ما بني على الاستلاب والغزو, وهو الإنتحاربالنسبة لها, لأن التاريخ يلغي مشروعية هذه الدولة التي عاصمتها مازالت بالإسم اليوناني
“أنكورا “.
وبما أن الخارطة الرمزية على مشروع الطابع هي خارطة وطن بأبعاده الجغرافية والسياسية والبشرية، فهي تذكر الترك بعدم مشروعية دولتهم القائمة على أنقاض الديموغرافيا البشرية للشعوب الأصلية, هذا رغم عدم تضمنها لأية حدود سياسية أو إدارية لكيان سياسي مستقبلي على حساب الكيان السياسي القائم لتركيا التي تدرك تمامًا أنها عندما تكون أمام خارطة ( وطن الكورد) فهي تكون في مواجهة حقائق التاريخ التي تهدد وجودها ككيان سياسي غير شرعي وخارطة الوطن الكوردي (كوردستان) كان يشار لها في الحقبة العثمانية للدلالة على مناطق التواجد للكورد اي إنها كانت خرائط جغرافية بشرية تميز مناطق التواجد القومي الكوردي في الدول الأربعة التي تقتسم كوردستان (إيران، العراق، سوريا، تركيا) لكنها من غير حدود إدارية أو سياسية كما هي خرائط غوغل الجغرافية والبشرية، وحتى المناهج التدريسية السورية وفي كتب الجغرافيا في المراحل الاعدادية والثانوية حتى أواسط سبعينات القرن الماضي كانت تتضمن مثل تلك الخرائط , والذي يؤكد على الرفض التركي للوجود الكوردي جغرافيًا وبشريًا وسياسيًا هو الإستنفار الفعلي لرموز الدولة العميقة في تركيا من قيادات الأحزاب الفاشية وبمعظهم من أصول غير تركية أمثال “اليونانية “ميرال أكشينار و”الكوردية “ميرال بشتاش وبإلتقاء مواقف الميرالتين مع موقف المستترك “الكوردي “دولت بخجلي يعني استكمال المشهد السياسي لتحرك الدولة العميقة بهذا الصدد.
وإذا ما تناولنا الموضوع في الجانب القانوني من وجهة نظر التشريعات الأممية وبحسب القرار 107 الذي إتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان بشأن حقوق الشعوب الأصلية في ١٣ أيلول عام ٢٠٠٧ يحق للشعوب الأصلية ( الشعوب الأصلية هي الشعوب التي لم تنظم أوطانها في دول مستقلة بذاتها ولذاتها) أن تعبر عن هوياتها الإثنية وعلاقتها السياسية وحق التواصل عبر الحدود والتعبير بالشكل المناسب عن هويتهم التاريخية الأصلية وذلك بموجب المواد 2 ،9، 25 36 و و46 وبموجب هذه المواد يسمح لإقليم كوردستان في الجانب العراقي من الحدود التدخل في شؤون إمتداد الأمة في الجوانب الأخرى من الحدود الإيرانية التركية السورية, إلا أن الكفاءة القانونية الضعيفة في الجانب الكوردستاني وعجزه أمام هيمنة الدولة الٌإقليمية أخفى هذا الجانب القانوني المشرع العهد الدولي المنصوص عليه في القرار 107. . .
إلا أن الحساسية المفرطة والفوبيا التركية تجاه كوردستان ظهرت مع ولادة الدولة الأتاتوركية الحديثة فهي حاولت في الماضي وبرعاية الدولة العميقة أن تزور حتى في الخرائط القديمة والتي وضعها أتراك أقحاح قبل نشوء الدولة العثمانية, فالخارطة التي وضعها العالم التركي محمود الكاشغاري عام 1072 م قامت تركيا بوضع الخارطة على طابع بريدي عام 1972 وذلك بمناسبة مرور 9 قرون على وضعها، لكن القائمون على العمل تجنبوا التسمية الرقمية على الخريطة لبلاد الأكراد وذلك عندما قاموا بوضع أرقام توضيحية للمواقع والتسميات الجيوغرافية في الخارطة, إد تم اسقاط بلاد الأكراد عن التسمية وفق الدلالات الرقمية، والأبعد من ذلك تعمدوا على إضافة هالة ضبابية على الكتابة الدالة على ( أرض الأكراد) بمهنية واحتراف فقط كي لا تقرأ أنها بلاد الكورد, وخارطة الجغرافي كاشغاري التي تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي توضح معالم الجغرافيا البشرية لكوردستان تحت إسم (أرض الأكراد ) إذ تتوسط الشام وأذربيجان والعراق وتلامس أطراف مصر والاسكندرية. وعلى الرغم من أن الخرائط القديمة تفتقد الى الدقة في تموضع المواقع الجغرافية إلا أن الموقع الحالي لكوردستان ـ وعلى رقعة جيوغرافية أكبر مساحةً ـ هو نفسه قبل أكثر من 1000 عام .
والملاحظة التي نود التذكير بها هو أنه عندما تغفل أية خارطة قديمة أو حتى حديثة او تسقط أو تغيب اسم كيان جغرافي أو إسم مدينة قائمة مثل “آمد” أو جبل بتسميه المحلية مثل “جودي” أو نهر مثل “دجلة” هذا لا يعني أن الكائن غير موجود، لأن الجغرافيين القدامى كانوا يتناولون العلوم والمعارف بحسب المدارك والجهود الفردية، حيث نرى اسم تلك المدينة المفقودة عند جغرافي آخر يسبقه بحقبة زمنية أو يليه، لذا عند القراءة التاريخية علينا الاستعانة بكل ما يتيسر لنا من مخطوطات وخرائط وإجراء المقاربات والتقاطعات الرقمية تسمية وموضعا وتاريخًا، لأن تلك المعلومات تستكمل بعضها، وحقيقة وجود هذا الكيان الجغرافي ” بالاسم أو الصفة ” نهراً كان أم جبالاً كانت أم بلاداً أو مدناً فهذه دلالة على حقيقة الوجود الفعلي لهذا الكائن، إذ لا يمكن لأحد أن يبتدع من ذاته ما هو غير موجود أو ما يمكن أو يفترض وجوده بعد مئات وآلاف السنين، ولذا السب بالذات نؤكد على التعامل بأمانة مع ثوابت الحقائق العلمية والنأي بها عن تداعيات جدل سياسي ذات خلفية ثقافية عنصرية .
وأمام هذا المشهد التركي الإنفعالي سقطت الكثير من الأقنعة, إذ تعمد البعض الخلط بين الدولة والوطن متناسين أن الدول بحدودها السياسية لا تلغي الأوطان التاريخية بحدودها البشرية, وعليه تقاطعت كل المواقف الممانعة لحركة التحرر الوطني الكوردستانية مع الموقف التركي.
معرض الصور
المصدر : باسنيوز