فدوى حسين
كانت المرة الأولى التي رأيت فيها مدرعات عسكرية، ورجال مدججين بالسلاح، يجوبون شوارعنا البائسة، في أحيائنا المنفية على أطراف مدينة قامشلو.
المدينة الكردية المهمشة من الخدمات، والاهتمام، ودعم المشاريع. المحرومة من أبسط حقوقها العمرانية، والتطويرية، والتعليمة. ولأنها فقط (مدينة كردية) رغم إنكار كرديتها.
رجال أمنٍ يصوبون أسلحتهم نحو صدر كل من يخرج رأسه من باب داره. أيام عصيبة، وسحبٌ سوداء غطت سماء المدينة، وحصارٌ ضُرب على روحها وأنفاسها .مازالت أحداث تلك الأيام تدق في عمق الذاكرة، وتقرع طبول الثأر لكل نقطة دمٍ سالت من أرواحٍ بريئةٍ. شرارة ثورةٍ انطلقت من قامشلو بعد أحداثٍ داميةٍ في ملعبها البلدي، و الأمر بإطلاق النار على كل من يرفع رأسه. موكب جنازات شهداءٍ سلميةٍ تحول الى معركةٍ حقيقةٍ، من جهة واحدة. جهة النظام، طالت كل المدينة.
مدينةٌ خرجت عن بكرة أبيها شيباً وشباباً، ينادون ويطالبون بحقوقهم القومية الكردية بشكل دستوري فقوبلت انتفاضتهم بالموت والرصاص. غصت المشافي بالجرحى وامتلأت الشوارع بالجنائز، واكتظت السجون بالمعتقلين، توقفت حركة الحياة إلا حركة القمع، والقتل، والتنكيل والضرب بيدٍ من حديد على كل من يحاول التنفس.
تم استقدام قواتٍ عسكريةٍ لتطويق المدينة وقمع الثورة .رأيت يومها كيف اخترقت رصاصات الغدر قلوباً ورؤوساً كانت مرفوعة تهتف للحرية!.
وكيف امتلأت الساحات بفوارغ الرصاص! .كيف كان الرجال والنساء يقفون في وجه الموت، يتحدونه. فجدار الخوف الحديدي تم خرقه، وسلاسل الرعب التي قيدت الحناجر تحطمت، وتمثال الإله الأوحد بعثياً أسقطه أبطال عامودا البطلة. ماعاد الموت يخيف، لم يعد أحد يأبه لصوت الرصاص. وحده هتاف الحرية كان صداحاً. أغلقت المدن، وشابها السواد. حارب رجالات الأمن ألوان الحرية، اعتقلوا كل من يحملها، ازالوها من واجهات السيارات ومعاصم الشبان والشابات، ولفائف الرضع، وحدائق المدينة.
واختفت ألوان العلم الكردستاني، ألوان الربيع مع بدء فصل الربيع، و شرارة الربيع الكردي، الذي سبق الربيع السوري بسبع سنوات. ثورةٌ كرديةٌ تنكر لها معارضو اليوم، وشاركوا في وأدها، و حاربوها، ووقفوا إلى جانب الجلاد ضد الضحية. سيف الجلاد المسلط على رقابهم أيضا.
لكن ما أن يكون الحق الكردي طرفاً في المعادلة، حتى يتبادل هؤلاء الأدوار و الاصطفافات، ولا يقلون عن جلاوزة النظام في حقدهم، وإنكارهم، وإقصائهم، لمن يدعون شراكة الوطن معهم.في الثاني عشر من آذار أوقد الكرد شعلة الثورة ولا زالت. ثورةٌ بدأت في قامشلو هب لها كل كردي، في كل مكان، في كل مدينة. في كل ركن وزاوية.
على قلب رجلٍ واحد، وبصوتٍ واحد، وصرخة ألمٍ واحدة، تصدح للحرية. رغم كم الحزن والمرار الهائل على من سقطوا بين شهيدٍ وجريحٍ ومعتقلٍ ومنفي. إلا أن حجم السعادة كان كبيراً ونحن نرى كيف لمت الآلام منا شملنا، ووحدتنا في كل مكان داخل الوطن أو خارجه حيث الجاليات الكردية التى لم توفر جهداً لإيصال الصوت الكردي للمنابر الدولية، وتقديم ما يمكن تقديمه من الدعم والمساعدة.
كيف انبرى الأطباء لفتح المشافي وعياداتهم، وتقديم العلاج للمصابين والجرحى، وتحمل مسؤولياتهم، كيف صرخت أقلام الحق اقلام المخلصين لتسطر الملاحم وتنشر ما يحدث وكان أولهم الأستاذان القديران إبراهيم محمود وإبراهيم يوسف الذي تحول منزله لغرفة عمليات لإيصال صوت الحق لأنحاء العالم.
كيف تسلل الشيب والشباب للمشافي لإنقاذ المصابين والتبرع بالدم .كيف هبت كل المدن لنصرة قامشلو وفك حصارها والمطالبة بالحقوق القومية الكردية العادلة! كما لم ولن ننسى كيف تكالبت بعض العشائر العربية مطالبةً النظام بتسليحها للوقوف في وجه الثورة الكردية ودعم النظام!
وكيف هاجم الكثيرون منهم على محال و بيوت وأملاك جيرانهم الكرد وسلبوا ونهبوا ما فيها! والبعض الٱخر فتح بيوته للشباب للاختباء عن أعين رجالات الأمن وعيونهم المدسوسة آنذاك!…
أحداث وصور تتزاحم أمامي الآن وأنا أكتب عنها. وتبقى الصورة الأنصع شرارة الربيع الكردي الذي سيزهر يوماً،
واتمنى أن يكون قريباً……
لأرواح الشهداء المجد والخلود.
المقال من الملف الخاص بانتفاضة قامشلو المنشور في موقع ولاتي مه
أقرأ أيضاً:
حساب السيرورة لم ينطبق على حساب الصيرورة
في التاسع من نيسان 2003 م سقطت بغداد وفي الواحد من حزيران من العام نفسه أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش عن نهاية العمليات القتالية بقوله ” المهمة قد أُنجزت ” وبالتالي إنهاء الحرب على العراق التي أدت إلى سقوط مدوي للنظام البعثي واعتقال كافة رموزه .