احمد ابراهيم
في كتابه (كيف أصبحت كاتبًا)، الذي هو ثمرة لقاءات متفرقة أجراها أوستر في متحف الفن الحديث في الدنمارك عام 2014، ثم في 2017، تتجلّى أمامنا سيرة ذاتية تختصر حياة كاتب أمريكي استثنائي، عاش داخل الكتب وبين رفوف المكتبات وأروقة النوادي الأدبية، ليصبح إسماً عالمياً امتدت قراءاته من الداخل الأمريكي إلى أوروبا، وتُرجمت أعماله إلى لغات عدة، وكان للعربية نصيب وافر منها.
(عن القراءة بوصفها حياة)
كما في مفهوم العقّاد
من أمتع الكتب في الفحوى والمعنى تلك التي تتحدث عن ذاتها، عن ذلك الفعل الخفي الذي نمارسه وحيدين، لكنه يُخرجنا إلى عوالم لا تحصى. القراءة ليست هواية عابرة، بل هي فن يتطلب التمرين والذائقة والتفكير والاستمرارية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ، هل تحتاج القراءة إلى خبرة؟ الجواب – رغم ما قد يبدو من تناقض – هو: نعم. فلكل قارئ أسلوبه، لكل عقل طريقته في الالتقاط والهضم، وهذا ما يجعل من تجربة القراءة عملية فريدة، تختلف باختلاف من يمارسها. وللكتّاب الكبار خصوصيتهم في هذا؛ وأوستر من أولئك الذين عاشوا القراءة كفن مُكمّل للكتابة، لا يفصل بينهما شيئ، أشبه بالقطار القديم الذي يتخذ من الفحم وقوداً لدفع محركه.
(الكتابة: التوأم العميق للقراءة)
الكتابة ليست نبتة برية تنمو وحدها، بل تُروى من ماء القراءة. يشبّه أوستر عملية الكتابة برحلة في فضاء واسع، أشبه بساحات يمر بها الكاتب خطوة خطوة، كلمة كلمة. وكأن كل كلمة تُكتب تُزيح مسافة، أو تعبُر برًّا آخر من هذه الرحلة الخفية المليئة بالمتاعب الفكرية إن صح وصفها بذلك.
يقول أوستر واصفاً هذه العملية المرهقة.
(أظل ماكثًا في الغرفة التي أكتب فيها هذه الكلمات. أضع قدمًا أمام قدم، وكلمة أمام أخرى. مقابل كل خطوة، أضيف كلمة، وكأن هناك دومًا مسافة يجب علي عبورها، مساحة لجسدي في انتقاله. إنها رحلة عبر المساحات، حتى وإن لم أصل إلى مكان، حتى وإن عدتُ حيث بدأت. إنها عبورٌ بين مدن، وخروجٌ من صحارى، وولوج إلى حواف محيطات خيالية، حيث تغرق أفكاري وسط أمواج الواقع القاسية.)
ويضيف بلمسة جمالية أكثر دقة مرة أخرى
(أريد أن أعبّر بأبسط طريقة ممكنة. أن أبدأ بما هو أمامي: مشهد طبيعي، شيء قريب مني. كأنني أبحث في هذا الصغير المتناهي عن صورة لحياة أكبر، كأن كل شيء حولي مرتبط بكل شيء آخر، والعالم في مخيلتي لا حدود له، عالم لا تُسبر أغواره بقدر رغبتنا في ذلك.)
(عن بدايات أوستر)
من المدهش أن يبدأ حب القراءة لدى أوستر في سن الثامنة، رغم أن والديه لم يتجاوزا الثانوية. كان مختلفًا عنهم؛ مأخوذًا بالكتب وما تحملهُ . وفي سن التاسعة كتب أول قصيدة عن الربيع، وسماها لاحقًا بأسوأ ما كتب، لكنها كانت أول نقطة حبر في مسيرته الطفولية التي امتدت بعدها لسنوات أكثر عطاءٍ.
(أوستر ومانغويل: قُرّاء يكتبون)
تشبه تجربة أوستر القرائية في عمقها تلك التي قدّمها الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، الكاتب الذي أفرد للقراءة كتبًا خاصة مثل (تاريخ القراءة)، (فن القراءة)، (المكتبة في الليل)، وغيرها. كلاهما جعل من القراءة قضية، لا فعلًا هامشياً.
(الروائي والتاريخ)
قال الشاعر والكاتب الكردي عرب حوري (إن الرواية تحتاج إلى وعي تاريخي وكم معرفي بأحداثها لأن الرواية في تركيبتها تعتمد على عنصر التاريخ السردي بطريقة قابلة للهضم لدى القراء) لا مجرد ثقافة عامة. وهذا ما أدركه أوستر، فغاص في التاريخ الأمريكي، لا سيما ذلك المشحون بالصراع العرقي بين السود والبيض. تناول الأحداث لا كمؤرخ، بل كروائي يرغب في تحويل الوقائع إلى سرد ينبض بالحياة.
(عن أوستر وجميع الكُتّاب في العالم)
الكاتب الحقّ هو من يناهض العنصرية، يكتب ضدها، ويفضح بنيتها. وأوستر مثال على هذا الوعي الأخلاقي الذي يُحيل الأدب إلى وسيلة لبناء السلام. فالثقافة إن لم تكن مقاومة للعنف، فهي تكرّس صورته. وأوستر، في هذا الكتاب، اختار أن ينحاز للعدالة، للحرية، للسلام للديمقراطية ، لأن للثقافة وجهان إحداها تكرّس العنف والأخرى تقود العالم إلى مرافئ السلام.
والقراءة ، ليست استهلاكًا للنصوص، بل لقاء حيّ مع الذات والعالم، ولغة تواصل عميقّة.
مصادر الاقتباسات
كيف أصبحت كاتباً.. بول أوستر
منشورات حياة