روماف – رأي
وحّد تأهل المنتخب المغربي إلى دور الثمانية في نهائيات كأس العالم المقامة في قطر، وقبلها أداء منتخبي تونس، والسعودية، وفوزهما، مشاعر كثيرين من أصحاب الهويّات القومية المتنافرة والمتخاصمة على اختلاف انتماءاتها ومسمياتها، انطلاقاً من مبدأ التشارك الجغرافي وتأييد هويّة الجار على الآخر البعيد، ورُبما يمكن “الاعتقاد” بأنها رسالة واضحة حول إمكانية إيجاد مساحات تشاركية للعيش معاً في هويّات مستقرة تتبادل مشاعر التأييد تجاه بعضها البعض، وقضاياها المشتركة والمختلفة أيضاً، قبل أن تُساهم بعض الكتابات في إعادة بث شيء من التفرقة بينها.
فالقول بأن انتصار المنتخبات العربية فرحة وإنجاز للعرب والمسلمين، يدفع إلى الواجهة بسؤال هويّاتي مهم: ماذا بخصوص أبناء القوميات والأديان الأخرى التي ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بتأييدهم وتشجيعهم لتلك المنتخبات؟ وهل كان تشجيع المتابع الكردي للمنتخبات العربية، بمثابة تفضيله للعروبة، أو تشجيع المسيحيين لمنتخب مُسلم بمثابة إسلامهم، على سبيل المثال؟
غريبة هي تلك الأقلام والشعارات، من دون شمول، التي تذهب في ذلك الاتجاه، وإشارتها إلى صلابة الهويّة والثقافة العربية الإسلامية، عبر تشجيع الكرد والأمازيغ والمسيحيين للمنتخبات “الإسلامية العربية”، وكأن تلك الهويّات الفرعية/ المحلية-الدينية والقومية، تنازلت عن حقوقها وقوامها أمام “هيبة وعظمة” الهويّة العربية.
هذه الطروحات جاءت من دون تحمّل عناء البحث والخوض في التفاصيل المنهجية والمشاعر التي تتحكم بانفعالات المشاهدين والمشجعين، والاكتفاء بالإشارة إلى هويّة الفريق المُشجَع كحامل ومعرف انتمائي للمشاهدين والمُشجعِين. وفقاً لذلك، هل يجب أن يُشمل أبناء تلك الهويّات على أنهم عرب ومسلمون؛ لمجرد تشجيعهم للمنتخبات العربية؟ علماً أن الربيع العربي فجّر جميع التابوهات أمام الهويّات الخاصة، ومنح حامليها الدعم الواضح للإجابة عن سؤال: من هم؟
غريبة هي تلك الأقلام والشعارات التي تتحدث عن صلابة الهويّة العربية الإسلامية، عبر تشجيع الكرد والأمازيغ والمسيحيين للمنتخبات “الإسلامية العربية”، وكأنها تنازلت عن حقوقها أمام “هيبة وعظمة” الهويّة العربية
وغالباً ما تم تقديم هويّاتهم القومية أو الدينية على الوطنية، وكل ذلك بسبب غياب الدولة الحديثة، التي تتفوق فيها الهوية الوطنية على جميع الهويات الفرعية. وبطبيعة الحال، شكّل ذلك التعريف المكانة العليا لها في الممارسة والإشارة إلى السياسات والانتماء المجتمعي، وكيف إذاً يتم شمول الجمهور كله بأنه عربي ومُسلم؟
غالباً ما كانت غالبية الشعوب ذات انتماء هويّاتي مركب ومتعدد وخائف ومتوتر، وهو ما يعني بالضرورة أن يكون مخيفاً أيضاً، لأن حامليه يبحثون عن الاستقرار واستغلال الظروف للخلاص، أو الحصول على حقوقهم السياسية ودعم وازن لمستويات الصحة والتعليم والرفاهية والتمثيل الحكومي الغائب عنهم بسبب هويّاتهم، وبالرغم من كل ذلك الالتباس، لوحظ اصطفاف تلك الهويات إلى جانب المنتخبات العربية أو المختلطة من العرب والأمازيغ والمسلمين والمسيحيين.
وهذا التشجيع من قبل أبناء القوميات الخاصة، غير العربية وغير المسلمة، لتلك المنتخبات التي تُعرف بأنها عربية ومسلمة، ليس انسلاخاً عن قومياتهم وهوياتهم، إنما ترسيخ لمبدأ أن التعاطف والالتزام بقضايا الهويّات الجارة أو الشريكة في بلد واحد، أفضل وأكثر قرباً وأهميةً من التعاطف مع الهويّات الأكثر بعداً بالمفهوم الجغرافي والإنساني، وليس إرجاعاً لهوياتها أو طمسها لأجل هويّة الآخر.
الفرح بانتصار وتأهل المنتخب المغربي هو إحساسٌ بالفرح لفرح الآخر، ومشاركة جمعية وليس انتماءً إلى العروبة كما يُروّج أو يُعمّم، وفرحة الكردي أو المسيحي للفوز جاءت للتأكيد على أن البحث عن السعادة والفرح والخلاص ومساحات الانتعاش والانتصار إنما تخص وتهم الجميع؛ فهي مفقودة لدينا كلنا، خاصةً أن أبناء الهويّات الفرعية ينظرون إلى تلك المنتخبات والشعوب العربية بعيداً عن قضايا الأنظمة، أو سياسات المحق والتعريب.
تشجيع تلك المنتخبات جاء بشكل عفوي، وكان الأجدر بالنخب الثقافية أن تلجأ إلى تعزيز ذلك الشعور لا الإشارة إليه من خلال عظمة الهويّة العربية وقوة ثقافتها، وأن المشجعين من أبناء الهويّات الأخرى إنما انطلقوا من شمولهم بمظلة العروبة والإسلام في تأييدهم لتلك المنتخبات. وهذا القياس ليس خطأً فحسب، إنما مُخيف ويأخذنا إلى حيث لا نرغب من حقول ألغام، وهو إعادة لسيناريوهات المحق والسحق والتضليل، وإرجاع الهويّات الفرعية إلى سابق عهدها والبقاء تحت رحمة أولوية وأحقية جماعة ثقافية بهويّتها وفرضها على باقي الهويّات.
إما أن نكون معاً على قدم المساواة، أو فليجد الآخر مكاناً جديداً يُعبّر فيه عن نفسه. فأنا كردي-سوري من القامشلي، وفرحت لفوز المنتخب المغربي لا لفوز العروبة والإسلام
وعلى سبيل المثال: شهد خلال الأيام الماضية، مقر أحد أبرز الأحزاب الكردية السورية والمعروفة بطرحها القومي، والتي تعدّ نفسها الحامل الجمعي للقضية القومية الكردية في سوريا، بث غالبية المباريات التي جرت، خاصةً إذا كان أحد طرفي اللعبة “منتخباً عربياً”، وغالباً ما كانت النُخب والقيادات السياسية للحزب والأهالي تتابع تلك المباريات في مقر-مكتب ذلك الحزب. فكيف يُمكن وصف ما حصل وفقاً لمقاييس الانتماء الهويّاتي من جهة، ومن جهة ثانية تخصيص الفرحة والتأييد والتشجيع على العرب وحدهم، وعدّه انتصاراً للعرب، وأن كل المشجعين إنما ينطلقون من “اشتياقهم للعروبة”؟ وكيف سينظر أنصار ذلك الحزب ومؤيدوه إلى هذا الطرح، وهو لا يتعلق بالجواب بمقدار تعلقه بالسؤال ذاته؟
تشجيع المنتخبات العربية والتي تضم لاعبين بهويات غير عربية، ليس حكراً على العرب وحدهم. التشجيع الجمعي، كان فرصةً لكل المشتغلين في الشأن العام لاستغلال هذا التقارب الهويّاتي بين الشعوب التي جمعتها المظلوميات، والعمل على المزيد من المقاربات والأبحاث والأنشطة المشتركة بينهم، بدلاً من تضييقه على قياس معلّقي القنوات العربية الناقلة لهذا الحدث، الذين أساساً لا يُدركون، وفي أسوأ الأحوال غير مهتمّين بفقدان الإحساس بخطورة وعواقب ما يفعلون.
لنفترص أن لكردستان، وللمسيحيين في المشرق، منتخبات خاصةً بهم وحدهم، شاركت في المونديال، ولعبت مع منتخبات مسلمة-عربية، كما يحلو للبعض تسميتها، فمن سيُشجع الكرد والمسيحيون، منتخباتهم أم الآخر؟ وهل سيُسأل المتابعون عن تفضيلاتهم ومن ثم محاسبتهم عليها؟ أم أن حق اختيار الفريق الأقرب إلى العاطفة سيكون حقاً في متناول الجميع؟ ربما نجد من يُشجع المنتخبين من ضمن جماهير المنتخبات الأخرى، في حال كان لعبهما مبهراً وقريباً من الشغف الجماهيري لكرة القدم وفنونها، فهل سيحق للكرد والمسيحيين عدّهم منضمين إلى تلك الهويّات القومية-الدينية؟
لنفترص أن لكردستان، وللمسيحيين في المشرق، منتخبات خاصةً بهم وحدهم، ولعبت مع منتخبات مسلمة-عربية، فمن سيُشجع الكرد والمسيحيون، منتخباتهم أم الآخر؟
طريق الهويّات وحواراتها لا يزال معبّداً بالمسامير، وكأس العالم في قطر، كان فرصةً ذهبيةً لترسيخ أواصل التقارب، بدلاً من النفخ في أسطوانة ملّت الشعوب منها، أو لم تملّ، أو فئة منهم فعلت ذلك. والأكثر تأجيجاً لمشاعر الخوف، أن شمولية العروبة والإسلام لهويّات المتابعين لمباريات كرة القدم، جاءت هذه المرة من قبل النُخب وليس الحكومات أو الأنظمة، ما يضعنا في مكانٍ جديد أكثر خطورةً من السابق.
لطالما شملت فرحة فوز المنتخب المغربي كل تلك الهويّات التي وجدت في الفوز مساحةً ممتازةً للتعبير والصراخ المشترك، وفرصةً لجميع الشعوب لأن تجد مساحات وتقاطعات مشتركةً للشعور الجمعي المشترك.
المشجع الرياضي تشغله فكرة الفوز أكثر من كل الأخبار الأخرى، بعدما ذبلت شعلة الأمل والمستقبل، ويأس من كل حالات التمرد على كل مظاهر العيش المشترك الخداعة. هؤلاء المشجعون الذين تشترك هويّاتهم، لا زالوا يحملون شيئاً بسيطاً من الأحلام في تجاوز مرارة الحروب والنزاعات والصراعات، ويتمنون قضاء ما تبقى لهم من أعمارهم من دون جشع تلك الصراعات وتفاهتها.
تلك المنتخبات إما أن تكون فرحةً لنا جميعاً، أو فلا لومَ إن شجعت الهويّات الفرعية والمقموعة منتخباتٍ أخرى تواجه العرب والمسلمين، فإما أن نكون معاً على قدم المساواة، أو فليجد الآخر مكاناً جديداً يُعبّر فيه عن نفسه. فأنا كردي-سوري من القامشلي، وفرحت لفوز المنتخب المغربي لا لفوز العروبة والإسلام.
أمر أخير، مدرب المنتخب المغربي وليد الركراكي، وبعد الفوز، لم يتحدث عن العروبة ولا عن الإسلام، بل شكر المغرب بلده، والجمهور المغربي، وأثنى على المدربين الأفارقة.