روماف – رأي
جان كورد
منذ توقيع معاهدة لوزان في عام 1923 وجريمة الإبادة بحق الشعب الكوردي مستمرّة، وقد استخدمتُ لفظ “الأكراد” لأن أعداء شعبنا في أغلبهم، بل والمثقفون منهم – مع الأسف – لا يستطيعون قبول فكرة أن الكورد “أمة”، فالأمم لها حقوق منصوصٌ عليها في الشرع السماوي وفي القانون الدولي… وهذه الإبادة الفعلية مستمرّة بأشكالٍ وصورٍ مختلفة ومتطوّرة عبر عقودٍ طويلةٍ من الزمن.
ولا يظنن أحدٌ بأن من الصعب إبادةٍ قومٍ من الأقوام، فإن شعوب الهنود الحمر، أصحاب الأرض الأمريكية الأصليين، من كندا إلى جنوب أمريكا، كانوا أكثر سكاناً من العديد من الأقوام والشعوب في العالم، فكاد المستعمرون البيض أن يقضوا عليهم خلال أقل من قرنٍ من الزمن. واليهود احتاجوا لقرونٍ عديدة حتى تمكّنوا من عيش جزءٍ منهم على “أرض الميعاد” التي يدافعون عنها بكل ما لديهم من قوى وطاقات، إلاّ أنهم يعيشون دائماً في خوفٍ من أن تتساقط عليهم القذائف والصواريخ من كل حدبٍ وصوب… والكورد ليسوا أكثر عدداً من الهنود الحمر وأوسع بلاداً منهم أو أشد قوةً وبأساً من اليهود.
فكيف كانت سياسة إبادة الهنود الحمر؟ لقد تمّ التضييق على مناطق تواجدهم الفسيحة عن طريق القوات المسلّحة الأمريكية التي استخدمت ضد السكان الأصليين سائر أشكال العنف والقسوة، من تقتيلٍ وتهجيرٍ وتعذيبٍ وحرق المنازل واغتصاب الحرائر وإرغام السكان على الانتقال للعيش الذليل في معسكرات ومستوطنات لا تختلف عن السجون في شيء، ثم بدأ العمل على تغيير ثقافتهم ولغاتهم العديدة وإجبارهم حتى على ارتداء الثياب التي يرتديها المستوطنون البيض، وتعليمهم اللغة الانجليزية في الوقت الذي منعوا الاطفال من التحدّث بلغاتهم القومية، كما لعبت الكنيسة دوراً كبيراً في تغيير الأديان والعقائد التي يؤمن بها الهنود الحمر بنشر المسيحية بينهم على نطاقٍ واسع، ومنعهم من إقامة احتفالاتهم الدينية التي كانوا يمارسونها منذ أن ظهروا على وجه الأرض كشعوب وقبائل. وهكذا أصبح أصحاب الأرض الأصليين أقلياتٍ ضعيفة في حين أصبح المستوطنون البيض هم الأغلبية وأصحاب الأرض، بل إن البيض نشروا عبر إعلامهم القوي، ولا زالوا ينشرون حتى اليوم بأن المعتدين والظالمين والقتلة المجرمين هم الهنود الحمر في حين أن المستضعفين في الأرض هم المستوطنون الذين جاؤوا إلى القارة الأمريكية من شتى أنحاء العالم المسكون.
فبماذا يختلف وضع الأمة الكوردية المغدورة عن وضع تلك الأقوام التي وجدت نفسها في ظلمٍ وعبودية وانكارٍ لكل ما لها من حقوق إنسانية وقومية؟ فلقد مارس أعداء الكورد كل سياسات البطش والتنكيل والتهجير والتجهيل والتعذيب والحرق ومنع استخدام اللغة الكوردية في نيل العلم، حتى أن بعض ضباط الجيوش المحتلة لكوردستان أرغموا سكان قريةٍ كوردية على تناول القذارة البشرية وهم يضحكون ويهددون بممارسةٍ أبشع، فهل ثمة ما هو أبشع من تلك الإهانة للجنس البشري؟
تمثلّت سياسة الإبادة العنصرية أو لنقل القومية بقتل مئات الألوف من بني الكورد المدنيين، بزج جماعاتٍ منهم في الكهوف وحرقهم فيها وهم أحيا، أو بوضعهم في أكياس مثقلة بالحجارة ورميهم في بحيرة وان، هذا سوى الاعدامات الجماعية والقتل العشوائي الذي كان ولا زال هدفه تقليل السكان الكورد من حيث العنصر البشري، حتى أن الفرس جمعوا من المناطق التي احتلوها من كوردستان 300 فتاة كوردية عذراء وأخذوهن ليجعلوا منهن سبايا وهدايا للأوزبكيين وغيرهم، ومسلسل الإعدامات للكورد لم ولا يتوقف أبداً… واستمرت الإبادة بحق الكورد إلى حين حدوث حرب الأنفال في اقليم جنوب كوردستان وقصف مدينة حلبجة بالغازات السامة وهي الكارثة التي تعتبر وصمة عارٍ على جبين العرب إلى يوم القيامة، وليس الذي حدث للكورد الازديين في شنكال من جرائم واختطاف وبيع لنساء الكورد في أسواق النخاسة أقل عاراً مما جرى لهذا الشعب من قبل.
وتمثلّت الإبادة السياسية في التنكّر لأي حقّ من حقوق الأقوام، وفي مقدمتها “حق تقرير المصير” للأمة الكوردية التي تفوق عدة شعوب حرة وبلاد مستقلة معاً، من حيث كبر الحجم السكاني وسعة الوطن. والذين لهم اهتمام يشؤون الكورد يعلمون أن ثمة اتفاقات سرية وعلنية بين الدول المحتلة لكوردستان على قصم ظهر كل محاولةٍ ساعيةٍ لتوحيد قوى الكورد وتقريب وجهات نظرهم السياسية وتجميع صفوفهم على هدفٍ قومي – سياسي واحد. وما احتلال أجزاء من اقليم جنوب كوردستان سوى عملية هدفها عرقلة نمو وتقدّم وتحقيق الانجازات في الاقليم، وكذلك احتلال 3 أجزاء من غرب كوردستان سوى عملية لنسف محاولة الكورد في هذا الاقليم لبناء شكلٍ متواضع من إدارة أنقسهم ضمن حدود الدولة السورية الحالية، تماماً مثل تلك الهجمات التي قام بها الأعداء وأذنابهم في 16 أوكتوبر المشؤوم حين الاستيلاء على مدينة كركوك، قلب كوردستان، وخطط لها قاسم سليماني الإيراني بالاتفاق مع خونة من الكورد من جنوب وشمال كوردستان. وفي كل مناسبة، وحتى على منصة الأمم المتحدة المفترض فيها أن تكون منصةً للحرية، يقف ممثلو أعداء الكورد ليقولوا بكل وقاحة، مثل بعض الإعلاميين المأجورين، أن ليس هناك قضية كوردية، وهذا يعني لا أرض للكورد ولا حق لهم في الحرية والاستقلال، وحتى في الحكم الذاتي أو تكوين كانتون متواضع الإدارة…
والإبادة الاقتصادية للكورد مستمرة بكل وجوهها في الانتاج والاستثمار وسائر البنى التحتية، فإن تهجير آلاف القرى في جنوب وشمال كوردستان وإجراء التغيير الديموغرافي في منطقة عفرين مثلاً سوى أعمال عدوانية تهدف إلى إحباط أي مسعىً للكورد لحماية ممتلكاتهم وبناء قواهم المالية – الاقتصادية، بل إن الصناعة كانت محرّمة على المناطق الكوردية منذ عقود طويلة في سائر أنحاء كوردستان.
أما الإبادة الثقافية، فقد كانت على كل المستويات التعليمية – التربوية في المجتمع الكوردستاني، من منع اللغة الكوردية في المدارس والجيش والدوائر الحكومية والمحاكم القضائية، ومنع النشر والتعبير باللغة الكوردية والاستيلاء على الكتب الموضوعة وتهشيم أقراص الأغاني الكوردية، واستخدام ألفاظ اللغة الكوردية على أنها من لغات المسيطرين على الأمة الكوردية، وبخاصة في تركيا، وتزوير الأغاني لتبدو وكأنها من أغاني المحتلين الغاصبين المحتلين… وهل هناك أبشع من ضرب راعي كوردي جاهل حتى درجة الإغماء لأنه فشل في أيامه الأولى من خدمته العسكرية في فهم الأوامر بغير اللغة الكوردية أو التحدّث بالعربية أو التركية أو الفارسية، بل إن معلمة مدرسة ابتدائية تقوم بغرز إبرة في لسان طفلة كوردية لأنها تفوّهت بكلمة كوردية وأخرى تقوم بمعاقبة تلميذة صغيرة لأنها كتبت اسم تفاحةٍ في دفترها من ثلاثة حروف بلغتها الأم؟
والمؤسف هنا، هو أن كثيرين من مثقفي الكورد قد تخلّوا إلى حدٍ كبير في حياتهم الابداعية والاجتماعية والسياسية عن اللغة الكوردية العريقة في القدم والوارفة الظلال في اتساع قواميسها ومفرداتها… وثمة من يتكلم العربية بنسبة 95% من ألفاظه في تلفزيونات الكورد وهو يظّن أنه يتكلّم بالكوردية، ولا يعاتبه أحدٌ على ذلك…
نعم، الكورد معرّضون لإبادة متعددة الوجوه، فلا يغرّنكم ما لدينا من قوى قتالية وأحزاب سياسية وانتاج ثقافي وفني، وهي إبادة عنصرية وسياسية واقتصادية وتقافية شاملة، يتفق عليها أعداء الكورد رغم كل خلافاتهم… وحان الأوان لأن يقف المثقفون معاً في وجه هذا الطوفان الخطير، فلربما تستيقظ الأحزاب السياسية ومنابر الملالي في شتى أنحاء كوردستان.