أحمد إبراهيم.
الخوف عندنا ليس عادة كما يُشاع، وليس حرصًا كما نحاول إقناع أنفسنا، بل هو ميراث قديم توارثناه جيلًا بعد جيل. لهذا الخوف وجوه شتّى؛ يبدأ بالخوف من الخروج على العادات والتقاليد، أو كسر بعض الأعراف البالية، ويمتد إلى الخوف المزروع فينا عبر النصوص التي تُفسَّر أحيانًا لتقييدنا أكثر مما تُفسَّر لتحريرنا. ثم نلقاه في الجماعات التي تعيش على تغذيته وصناعته في القلوب والعقول.
إنه الخوف الاجتماعي من المحاورة والمساءلة، والخوف اليومي الذي يسكننا من المستقبل والمجهول، بل حتى من أقرب الناس إلينا. هكذا يصبح الخوف شريكًا دائمًا، يرافقنا في تفاصيل حياتنا الصغيرة كما في قضايا مصيرنا الكبرى.
لدينا رهبة خانقة من السؤال، من الاستفسار، من البحث والتقصي؛ نخشى الغوص في دهاليز الماضي، ونرتجف أمام أطروحات الفلسفة والفلاسفة. نشكك في عقولهم، ونركض نحو ما يريحنا عبر التخدير بجمل واهية. نعيش محنة السؤال، محنة التفسير لمرة واحدة بحسب واقعنا، أما الحلول فتظل قضية أخرى، لأننا نفتقد وعي التصفية وإزالة الشوائب، ونتعامل مع المسائل كما لو كانت معلبات مكتوب عليها “حلال”، بلا أن نفهم طريقة صنعها.
قد قال رالف والدو إيمرسون: “من لا يتغلب كل يوم على بعض المخاوف لم يتعلم سر الحياة.” لكننا نخاف المحاولة نفسها، وكأن مجرد دفع عجلة التغيير سيهدم كل ما بنيناه من أوهام اعتدنا أن نسميها حقائق مطلقة. نسير عليها بخطى واثقة، لكن الثقة هنا ليست صوابًا، بل مألوفًا.
الخوف يتسلل إلى هويتنا، يحدد ما نحققه، ما نحلم به، وما نرفضه. يخيفنا أن نكون مختلفين، أن نفكر خارج القوالب المألوفة، أو أن نحمل فكرة لا يوافق عليها المجتمع. ونتساءل: هل نعيش حياة حقيقية، أم حياة مفروضة علينا منذ نعومة أيدينا، مصممة لتقليد أمان الآخرين بدل أن نخلق أماننا بأنفسنا؟
كما يتغلغل الخوف في علاقاتنا، يفرض صمتًا يعيق الحوار والصدق، ويخلق مسافة بيننا وبين من نحب. نخشى أن نُحبط، أن نُرفض، أن نُحاكم على أفكارنا، فنعزل أنفسنا في أقفاص صغيرة نطلق عليها أحيانًا “حياة طبيعية”. وفي هذه الأقفاص، نتوارث ليس فقط مخاوفنا، بل مخاوف من سبقونا، حتى يبدو الخوف وكأنه قدر محتوم لا مفر منه.
لكن في قلب هذا الظلام تكمن فرصة التحرر. التساؤل، مهما كان مؤلمًا أو مقلقًا، هو البداية. أن نواجه أفكارنا ومخاوفنا، وأن نعيد النظر فيما ورثناه، هو أول خطوة نحو الذات الحقيقية. أن نعيد صياغة علاقتنا مع الخوف ليس بالإنكار، بل بالوعي، هو ما يمنحنا القدرة على التغيير. فالخوف، وإن كان ميراثًا، يمكن أن يتحوّل من قيود إلى أدوات، تعلمنا الحذر، ولكن أيضًا الإقدام.
اكتشاف المزيد من Romav
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.