روماف – رأي
شفان إبراهيم
تتضارب التوقعات حول تأجيل الضربة التركية في شمال سورية (أو تنفيذها) وما بين جدّية الإدارة الأميركية في استثناء هذه المنطقة من تداعيات عقوبات قانون قيصر، أو عدّها كغيرها من الوعود والتصريحات الأميركية بشأن المنطقة، فالرئيس أردوغان والإعلام التركي يقرعان طبول الحرب على قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تزعم تركيا أنها استكمال لمشروع المنطقة الآمنة التي تسعى إلى تنفيذها، وجدد الرئيس أردوغان الحديث لوسائل إعلام تركية عن اقتراب موعد عملية عسكرية جديدة في شمالي سورية، مؤكداً أن بلاده تقوم بـ”خطوات لازمة” في المنطقة، وأنهم لا “يريدون أن يزعجهم أحد”، وأنهم مزّقوا الممر المراد تشكيله على حدودهم، في إشارة إلى عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ودرع الربيع والمخلب في سورية، والقفل في العراق.
ويشهد الشمال السوري تسخيناً ميدانياً، سواء في مناطق سيطرة “قسد” في شمال تل تمر وعين عيسى واستمرار المسيرات التركية باستهداف مواقع أو شخصيات عسكرية ومدنية، أو قصف بعض نقاط تمركز الجيش السوري في غرب تل تمر، عدا عن اشتباكات بالرشاشات الثقيلة على محوري ريف إدلب وريف حلب الغربي، فيما استهدفت فصائل المعارضة تجمّعات الجيش السوري على محور الفوج 46 غربي حلب. في المقابل، قصفت القوات الحكومية السورية بالمدفعية ريفي إدلب الشرقي والجنوبي، وأطراف شرقي جبل الزاوية في ريف إدلب، حيث انتشار قواعد ونقاط تمركز القوات التركية. وفي الجانب الآخر من معادلة إدارة المناطق الحدودية الشمالية، فوّض الرئيس الأميركي بايدن وزير الدفاع لويد أوستن بالصلاحيات المطلوبة لاتخاذ القرارات بشأن الترخيص للشراكات المستثناة في الشمال السوري من العقوبات. وقال بيان صادر عن البيت الأبيض إن الرئيس “بموجب السلطة المخولة له وفق دستور وقوانين الولايات المتحدة، فوّض وزير الدفاع بالسلطة والمهام المخوّلة للرئيس لتفويض الدفاع الوطني للتنازل عن قيود معينة على تكلفة مشاريع البناء والإصلاح لدعم حملة مكافحة داعش في العراق وسورية.. ويتضمن اتخاذ أي قرارات متعلقة، وتقديم أي إخطارات متعلقة بالترخيص بشأن العقوبات للكونغرس”.
قرار إعفاء الشركات من العقوبات في الشمال السوري يتطوّر، وإن ببطء، لكن التنفيذ يتطلب جملة من الشروط
في قراءة الموقفين – الحدثين: أولاً، التعزيزات العسكرية للجنوب التركي المحاذي لمنبج وتل رفعت، حيث تسيطر “قسد” منذ 2016، أو القصف المدفعي على باقي مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، فإن خمس مُحدّدات مرتبطة مرتقبة حول تلك العملية، أولها: من خلال سياقات المسارات السياسية لسورية والمؤتمرات الدولية، قضية مياه سد الفرات، العمليات العسكرية السابقة، والتهديدات المستمرّة. الواضح أن تركيا لن تسمح بوجود كيان سياسي مرتبط عضوياً بـ”العمال الكردستاني”، كما أن مستقبل المنطقة الكردية سيبقى مرهوناً بمدى التوافق والمصالح التركية معها ونوعية وآلية إدارة المنطقة وحجم النفاذ الاقتصادي لأنقرة في كامل الشمال السوري.
وثانيتها: إصرار تركي على تنفيذ مشروعها “الحلم” في إبعاد “قسد” 30 كلم لا يزال يراود مخيلة القيادة التركية السياسية والعسكرية.
وثالثتها: غضب تركي رسمي لعدم تنفيذ واشنطن وموسكو التفاهمات والتعهدات مع أنقرة بالشكل الكامل، خصوصا الاتفاقيات خلال عملية نبع السلام. لذلك يتكرّر سيناريو التلويح بالعمليات العسكرية بين حين وآخر، ورابعتها: مخاوف تركية من استغلال إيران سياسة ملء المكان في حال حدوث أي انسحاب روسي ولو جزئي، والتي عبرت وزارة الخارجية السورية عن رفضها العلني تلك العمليات. وذكرت أن التدخل العسكري يُعتبر “تناقضاً مع تفاهمات مسار أستانة ومخرجاته وتهديداً لسلم المنطقة وأمنها، وأن تلك الهجمات ستؤدي إلى نسف التفاهمات السابقة برعاية دولية، في ما يخصّ خطوط مناطق خفض التصعيد”، والذي تشترك موسكو في مخاوفها مع أنقرة من تمدد قوات إقليمية عديدة إلى هناك، خاصة أن تل رفعت يقع بالقرب من بلدتي “نبل والزهراء” ذواتي الغالبية الشيعية والتي توجد فيها قوات إيرانية، وهما بلدتان تحاذيان الطريق العام الرابط بين حلب وأعزاز الحدودية مع تركيا التي تسيطر عليها المعارضة السورية، وليس من مصلحة إيران والقوات الحكومية السورية أن تسيطر تركيا على تل رفعت، لأن ذلك سيعني ربط الطريق البرّي بين حلب وتركيا لتنشيط حركة التجارة.
وخامستها: لا يمكن إعادة سبب تأخر تنفيذ تركيا تهديداتها إلى إنها قضية تتعلق بالتحضيرات اللوجستية فحسب، بل ثمّة شبكة معقدة من العلاقات وتوفير “الأمان السياسي” لتسويغ العملية، ومحاولة تركيا الحصول على موافقة أغلب الأطراف الفاعلة في الشأن السوري. ولعل تصريح وزير الخارجية الروسي لافروف عن نية أميركا تقسيم سورية عبر دعم الكرد، قرأته تركيا إشارة إلى موافقة ضمنية لأي عملية عسكرية تركيا في “شرق الفرات”، والابتعاد عن غربه. لذا، يدخل التهديد التركي في منحيين، أولهما: الضغط على واشنطن وموسكو للإيفاء بالتزاماتهما، وفي حال تحققها، ربما تؤجّل العملية، في الوقت الراهن.
أو إن التنفيذ التركي لن ينتظر موافقة الدولتين، ولن تكون عملية واسعة النطاق، بالرغم من إنها أحد أبرز الأهداف التركية المرحّلة، وتبقى ضمن عمق التطلعات المستقبلية وبنيتها إلى حين الحصول على ظروف استراتيجية لجانبها تشكل صلابة الاعتماد عليها لتنفيذ مخططها.
جديد التهديدات التركية، هذه المرّة، يدور حول نوعيتها من حيث التوقيت والسياق العام المرتبط بالحرب الروسية على أوكرانيا، والتي جعلت موسكو مشغولة عن الملف السوري إلى حدٍ ما، ورغبة تركيا باستغلال أي فراغ محتمل أو ضعف للوجود الروسي والسرعة لملء المكان. لذا، ارتفاع حدّية الخطاب والتهديدات التركية الحقيقية ضد مناطق نفوذ “قسد” هي رسالة توكيد قوة أنقرة ووجودها في الساحتين، الإقليمية والدولية، تمكّنها من لعب أي دور ينيطه بها من الغرب، وإمكانيتها العمل منفردة عنه، خصوصا خلال الأحداث أخيرا، ولعبها دور “فاعل الخير” بين موسكو وكييف”، ودور أنقرة في مواجهة التحدّيات المتربصة بقضايا الغاز والطاقة في أوروبا، والظهور بدور القوي في حلف الناتو، ورفضها انضمام فنلندا والسويد لها، ما لم تتحقّق مطالبها، خصوصا ضد “قسد”، إضافة إلى أبرز ورقة قوة بيدها (اللاجئون السوريون) والتهديد المستمر بإعادة مليون سوري إلى الداخل، وأحد أبرز متطلبات تنفيذ المشروع هو ما تسميها أنقرة “المنطقة الآمنة”.
غضب تركي لعدم تنفيذ واشنطن وموسكو التفاهمات والتعهدات التي أبرمتاها مع أنقرة بالشكل الكامل، خصوصاً خلال عملية نبع السلام
ثانياً: قرار الاستثناء: واضح أن قرار إعفاء الشركات من العقوبات في الشمال السوري يتطوّر، وإن ببطء، لكن التنفيذ يتطلب جملة من الشروط، في مقدمتها، في المرحلة الأولى، تقريب هياكل الحكم المحلية في الشمال السوري، فوجود شركات أميركية – أوروبية يعني، بالضرورة، وجود قانون ونظام سياسي يحميان تلك الشركات، في حين أن أغلب القوانين الموجودة والقرارات يُمكن لها أن تتغير في أيّ لحظة، وتلك الشركات العالمية تمتلك رؤوس أموال ضخمة جداً، غالباً ما تساهم في صناعة القرارات الدولية، لن تدخل في منطقةٍ من دون تغيير جذري في بنيتها السياسية والإدارية. وهو ما يتطلب تعديلا كاملا في الوثائق السياسية والعقد الاجتماعي والتشبيك الإداري، وإيجاد صيغة تفاهم بين القوى العسكرية – السياسية الموجودة في شمال شرق غرب سورية. إذ إن الوضع الإداري والحوكمي وآلية اتخاذ القرارات ومزاجية تعديل أي قرار أو اتفاق، وعدّم وجود أسّ قانوني رصين وتوافق سياسي محلي خاصة في شمال شرق سورية، يجعل من عمل تلك الشركات محل خطورة. وإذا كان الوضع في الشمال الشرقي معقدا ومتداخلا، ويشهد دوماً توترات سياسية، وتكرارا للمطالب الشعبية ذاتها دوماً، لكن الشمال الغربي يئن تحت صراع الأجنحة الحكومية، ورُبما جاز القول إن “مجموع الحكومات” في الشمال الغربي يشكل ضعفاً في بنية عمل الشركات. ونجاح القرار الأميركي يرتبط بتغيير بنية العملين، الإداري والسياسي، في الشمال السوري، والفصل بين السلطات، ما يتطلب حكماً تغير النمطية والقوانين في كامل الشمال السوري، وضرورة توفير مناخ سياسي ومصالحات داخلية.
ثالثاً: الربط بين الموقفين – الحدثين: هذه الشركات ستدخل حتماً مباشرة أو عبر وسطاء وممثلين من شركات محلية تركية، أو في كردستان العراق، فالمنطق السياسي والإداري يقول إن دول الجوار هي أكثر الدول استعداداً للمشاركة في القرار. ويرتبط الشمال السوري بجملة من المعابر مع تركيا وكردستان العراق، وحتّى لو استمرّ الفيتو التركي على معبر تل كوجر/ اليعربية، فإن معبر بيشبابور- سيمالكا يُمكنه لعب دور رئيسي وأساسي في حركة تلك الشركات. ويتطلب هذا الأمر إجراء مراجعات واضحة في سياسات الهياكل الحكومية السياسية والإدارية والعسكرية لكامل الشمال السوري، وحصول التوافق الكردي – الكردي ثم الكردي مع باقي المكونات، سيسهل عمل الإدارة الذاتية داخلياً، ومع المعارضة السورية، وتالياً تركيا التي ستسعى إلى استثمار ضخم في قرار الاستثناء. ومن الممكن ولادة نظام سياسي جديد للشمال السوري ربما يكون مخالفا للفيدراليات أو اللامركزيات بشكلها المتعارف عليه، لأن تطبيق القرار سيعني نقل الشمال إلى طوْر جديد، وأقل التغيرات أنه لن يكون لتركيا الحق بالقيام بأي تدخل عسكري، طالما أنها تحفظ دورها الاقتصادي في المنطقة، وتزيل ما تسميها “التهديدات على أمنها القومي”.