روماف – الحياة والمجتمع
ترصد عوالم التواصل الجديدة حجم التباين بين الناس في كل شيء، كما ترصد الفوارق الطبقية والمعرفية بين المستفيدين منها، بوجهيهما المستثمر بها، والمتلقي لها، وهي مع تحول عام في مفاهيم مجتمعاتنا العربية من خصوصية الحياة الأسرية وقدسيتها، صارت الحياة بكل صورها مادة مستهلكة ومصورة، وقابلة للنشر، ترصد تفاصيلها عند طبقات مختلفة، الفقير والغني، والمتمكن من العلوم والمعارف إلى عارضي الجسد، والمساومين عليه، ومن ضمن ذلك ترصد عوالم النساء بمتغيراتها الجسدية والنفسية، وتغيّر علاقتهن بأجسادهن، سواء أسهمت بالتحفيز على مواكبتهن لمن تستطيع إلى ذلك سبيلًا، أم أبقته خاملًا غير مكترث بعالم الجمال المصنع والمكلف.
عادة ما تبحث المرأة عن ملامحها في مرآتها، لكن مع تقدم وسائل التواصل الاجتماعي بتقنياتها المتكاثرة يومًا بعد آخر، صارت تبحث عنها بين آلاف – أو أكثر- من الصور المنشورة، لسيدات ما بعد “التجميل”.
وأنا واحدة من النساء التي تراقب سنوات عمرها التي اقتربت من مؤشر الستين عامًا، تارة عبر المرايا، وتارة أخرى عبر شاشة “الموبايل”، في كلاهما يصرخ العمر بوجهي: “أنا الحاضر”، ملامحك تتوافق مع عداد عمرك في المرآة، لكن صور نساء أخريات ومن على شاشات الموبايلات واللابتوب تختلف كليًا، حتى كأنها تجتمع لتقول، نحن من عالمين مختلفين أو متعاكسين في سير الزمن، يأخذ منكن الشباب ويمنحه لنا.
أنا أرصد وجوه المؤثرات ذات نفس العمر الزمني، أراقب كيف تتوقف عقارب الساعة معهن، على عكس ما تتسارع معي، آخذة بيدي نحو كهولة موثقة، سواء بتوقيعها على خطوط وجهي، أو حتى باستلقائها إلى جانب سريري، بكيس فيه من أدوية ما يصعب من حفظ أوقاتها، أنواعها متعددة، من أدوية العمر الهارب بين سنوات الدراسة العشرين، ومن ثم البحث المضني عن فرصة عمل، تلك التي أمضيت فيها عقدين من الزمن، في بلد لا تنجو منه المرأة من تهمة أنوثة جسدها، مهما امتلكت من كفاءات أو شهادات وتميز، ليضعها قدرها الجندري في حرب دائمة بين الاجتهاد للقبض على مكانتها، وبين رد عدوان ذكورية منافسيها، من رجال و”نساء” ومجتمع.
تأخذ معركة إثبات الحضور المتميز مع الرجال جولة واحدة من مراحل عمله، بينما تبقى النساء في معركتها المصيرية، منذ أن تضعها الأقدار على لائحة العمل خارج منزلها، إلى لحظة وفاتها، وتتعدد جبهاتها بين تمكينها المعرفي والعملي، وبين حياتها ما خلف جدران منزلها، وعودتها إلى فطرتها زوجة وأم، وقبلهما ابنة وأخت.
في كل هذه المعارك، رغبة المرأة في الانتصار تبقى منهكة، ربما أنا هزمتني جبهة العمل، في جولة مرة، أو مرات، ولكنها بقيت ساحة مفتوحة، أحصد منها نجاحًا في مرة، ومراوحة في المكان أخرى، وأحيانًا تلقي بفرح الانتصار لمرات، وهنا لا أنكر حجم فرحي واعتزازي بأنني كنت أول رئيسة تحرير لجريدة سياسية في سورية، التي لا يصدر فيها سوى جريدتين حكوميتين، وواحدة للحزب الحاكم، وأخرى خاصة، وكما تأخذني النشوة بفرح نجاحي بمهمات كثيرة، لم يكن حمل ثقلها سهلًا في ظروفنا السورية الصعبة، من فقدان العمل والأمان في بلدنا، إلى الوقوع أسرى البطالة في بلادنا، نتيجة موقف سياسي أو انساني، ومن ثم النزوح واللجوء، ما يجعلني أعترف أنني، أيضا، هزمتني المرآة حين أقيس ملامحي أمامها، وهي تسجل كل قسوة مر بها الزمن على وجهي.
وهنا أعترف، في عيادة طبيب التجميل تدرك المرأة أن جسدها هزمها، في تلك اللحظة التي قررت فيها الدخول والجلوس على كرسي التصنيع، حاولت أن أخدع نفسي، أن أعتبرها لحظة تفوق على الزمن، بينما هي كانت لحظة ضعف من مواجهة الزمن، هذه تجربتي أنا، ليست تقييمًا للأخريات والآخرين، فلكل منا أسبابه، أو حتى طريقة مواجهته لنفسه، فقد كنت لسنوات مضت أرى في تعابير العمر المتزاحمة على وجهي ما ينصف تجربتي، ولكن مع انتشار صور لملامح شبيهات العمر اللاتي واكبتهن خلال مسيرتي، والمسلسلات التي تقتحم حياتنا، حتى تكاد “البطلات” يخرجن من الشاشات، فتجلس بقبالتك تلك المرأة الجميلة بوجهها النضر، والمتغير، تبعا للموضة المستحدثة، وأحيانًا تشعرين بها تزاحمك على أريكتك، فيصير الزمن عبئًا عليك، كغيرك من سيدات كثيرات، وخاصة مع تساؤل مريب ممن حولك أحقًا هذه من عمرك؟!
لهذا كان السؤال الذي لم أستطع الإجابة عليه بصراحة، لا أمام نفسي، ولا أمام الطبيب الذي ينتظر ردودي، هل أريد فعليًا إنكار هذه السنوات التي عبرت بخطوطها وملامح قسوتها على وجهي، أم أنه اعتراف بهزيمتي أمام ما يسمى “السوشيال ميديا” بخدماتها المميزة التي تمنح الآخرين حق الدخول إلى عوالمنا من غير حدود؟
سألني الطبيب عن رغباتي، فقلت له دون أن أميز أنه لا يفهم لغة العواطف العربية: “أريد أن تُمحي من على عينيّ هذه النظرة البائسة التي تضيع معها قدرتي على الفرح، وتزيل هذين الخطين الذين ينتصبان بينهما، كأنهما يستعدان لمعركة أخيرة، أريد عشر سنوات من الماضي بل أكثر، أريد أن أعود امرأة لا يغطي وجهها غبار الحروب، ولا تمحو شفاهها تمتمات الدعاء، امرأة تستطيع انتزاع إشارات التعجب من على وجوه المارة، دون أن يعقب ذلك قولهم امرأة من زمن الستينيات؟!”.