لم يكن التوافق التركي السويدي الفنلندي برعاية الأمين لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، وبدعم أمريكي وتشجيع بقية أعضاء الحلف، أمراً مستبعداً بالنسبة إلى من يتابع المتغيرات الجديدة التي تطرأ على صعيد الاصطفافات والتحالفات، واتخاذ المواقف على المستويين الدولي والإقليمي بعد الحرب الروسية على أوكرانيا؛ إنما الذي فاجأ المهتمين بهذا الملف هو سرعة التوصل إلى هذا التوافق، وهذا ما يمكن تفسيره أيضاً من خلال فهم أهمية خطوة انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الحلف. فانضمام السويد إلى الحلف لا تقتصر أهميته على طمأنة السويديين من التهديد الروسي لبلادهم بعدما حصل في أوكرانيا، وهو التهديد الذي يذكّرهم بالهجوم الروسي على بلادهم قبل نحو قرنين من الزمن تقريباً 1808-1809. كما أن الفنلنديين ما زالوا يتذكرون الاحتلال الروسي لبلادهم على مدى نحو قرن 1809-1917، ويتذكرون أيضاً الهجومين الكبيرين اللذين شنهما الجيش الروسي في عهد ستالين أثناء الحرب العالمية الثانية في عامي 1939 و1944.
ولكن انضمام السويد وفنلندا يمثل في الوقت ذاته حاجة أطلسية، نظراً لما توفره الدولتان من عمق استراتيجي لدول الحلف في منطقة قريبة محاذية لروسيا. وفي المقابل، فإن تركيا هي الأخرى مهمة جدأ بالنسبة إلى الحلف، كونها متاخمة لروسيا من جهة الجنوب، وتتشارك معها ومع أوكرانيا إلى جانب دول أخرى شواطئ البحر الأسود، وتتحكّم بممرات مائية تعد من الأهم في العالم. كما أن لها علاقات متشعبة مع دول آسيا الوسطى، ودول الشرق الأوسط.
لقد جاءت الموافقة التركية المبدئية على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الناتو بعد موافقتهما على المطالب التركية المعلنة وهي:
قطع العلاقات والدعم مع الحزب العمال الكردستاني وواجهاته باسمائها المختلف خاصة ب. ي. د. و YPG وجماعة فتح الله غولن.
وقد استند هذا المطلب التركي إلى المعلومات الخاصة باللقاءات العلنية بين قيادات من تلك الواجهات والمسؤولين السويديين.
وعلى الأغلب لم يكن الانفتاح السويدي على تلك الواجهات بعيداً عن الانفتاح الأمريكي والفرنسي عليها الذي كان من ناحيته في سياق الخطة الأمنية العسكرية الأمريكية والغربية بصورة عامة التي اعتمدت في سوريا، وتشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش، والحاجة إلى قوات ميدانية على الأرض.
هذا مع معرفة الأمريكيين الأكيدة بطبعية العلاقة العضوية بين الواجهات المعنية وقيادة PKK في قنديل، وهي القيادة التي لم تخرج منذ أربعين عاماً عن دائرة النفوذين الإيراني والأسدي. ولكن يبدو أن الاعتبارات الميدانية هي التي دفعت بالولايات المتحدة إلى الاعتمادعلى قوات YPGوتلك التي تعرف حاليا بـ «قسد»، وهي بالمجمل قوات تابعة لـPKK . وكانت الفتوى بأن هذه القوات تخص كرد سوريا، وليست لها علاقة مع PKK، وهي فتوى تذكرنا بتلك الهرطقة التي كانت لشرعنة التواصل مع «حزب الله» من خلال التمييز بين جناحيه العسكري والسياسي.
وكان من الواضح أن الاعتماد الأمريكي على الواجهات المعنية في سوريا كان ضمن التوافق العام الذي جرى على الموضوع السوري بين كل من روسيا وأمريكا وإسرائيل. ولم تكن إيران بعيدة عن التفاهم المذكور بهذا الشكل أو ذاك. وفي محاولة لامتصاص ردة فعل تركيا، تم غض النظر عن تدخلها العسكري في الشمال السوري، خاصة في مناطق عفرين وتل أبيض ورأس العين.
غير أن الأمور في يومنا هذا أخذت منحى آخر، وذلك في مناخات المواجهة العنيفة شبه المباشرة بين الغرب وروسيا، وهي مواجهة قد تكون مقدمة لمواجهة أوسع، ربما تكون الصين طرفاً. لذلك تشهد الساحتان الإقليمية والدولية سلسلة من اللقاءات بين الأطراف المختلفة. ويُشار هنا إلى اللقاءات السعودية الإيرانية بوساطة عراقية؛ واللقاءات غير المباشرة بين الأمريكيين والإيرانيين في الدوحة؛ إلى جانب التحول اللافت في الموقف الإيراني بخصوص تفهم الهواجس الأمنية التركية؛ فكل ذلك، كما يبدو، يدخل ضمن إطار الاستعدادات للتحديات المقبلة.
وإيران تدرك في هذا المجال أنها إذا وقفت بجدية إلى جانب الروس فإنها ستتعرض للمزيد من الضغوط العسكرية والاستخباراتية، والعقوبات الاقتصادية؛ وربما يعاد النظر في دورها في الملفات الإقليمية؛ بل هناك امكانية لتحريك الكثير من الملفات والقضايا في الداخل الإيراني نفسه، خاصة تلك التي تخص الإصلاحيين وقضايا القوميات.
كما أنها (إيران) تعرف أن لعبة الشعارات الأيديولوجية لم تعد فاعلة كما كانت قبل عقود. أما إذا تخلت عن مشاريعها التوسعية التي أنهكت مجتمعات ودول المنطقة، وقبلت بدورها الطبيعي كقوة إقليمية أساسية عوضاً عن نزوعها التوسعي المزعزع، فستستفيد على مختلف الصعد، لا سيما في ميدان تصدير النفط والغاز ورفع العقوبات الاقتصادية وتطبيع العلاقات.
أما بالنسبة إلى انعكاسات التوافق المشار إليه على دور حزب العمال الكردستاني، وواجهاته في كل من سوريا والعراق، فمن المتوقع أن تتجلى في تقلص هذا الدور؛ الأمر الذي ربما يدفع بقيادته إلى إجراء مراجعات جدية لسياساته. فهذا الحزب رغم النجاحات الانتخابية التي حققها من خلال واجهته حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا، لم يقدم على خطوات جادة كان من شأنها استثمار تلك النجاحات للوصول إلى حل سياسي للمسألة الكردية في تركيا. ولم يسع كذلك إلى تهيئة الأجواء من أجل تحسين العلاقات مع السوريين المناهضين لسلطة بشار الأسد، وعلى الأخص مع العرب والكرد، بل على النقيض من ذلك أقدم على كل الخطوات التي أدت إلى إفساد تلك العلاقات؛ وكان فرعه السوري PYDأعلن وما زال يعلن تمسكه بشعارات ورموز PKK، بل يسير بموجب توجيهات وأوامر ذلك الحزب، وبقيادة مباشرة من قبل كوادره، وهو الحزب الذي أكد الحلف الأطلسي على لسان أمينه العام بأنه حزب إرهابي، وكذلك فعلت السويد وفنلندا ضمن إطار اتفاقهما المكتوب مع الجانب التركي.
واليوم، من الواضح أن الخناق يشتد حول هذا الحزب «PYD»، لتصبح خياراته أقل. فهو إما أن يعلن فك ارتباطه مع حزب العمال الكردستاني، ويقنع السوريين والأطراف الدولية والإقليمية بأنه قد بات فعلاً حزباً سورياً له أولوياته السورية؛ وليس مجرد استطالة لـ PKK، يتخذ من ادعاءات الديمقراطية والسورية مجرد أدوات تضليل لـ «شرعنة» تدخله، وهيمنته على مساحة واسعة من الأرض السورية، والتحكم بمصير الملايين من السوريين والاستفادة من الموارد الطبيعة والمالية الخاصة بالسوريين، أو أنه يتحول بدعم روسي، إلى جزء من سلطة بشار الأسد، وهو الأمر الذي ستكون له تبعاته الداخلية السورية والإقليمية.
موضوع صادرات الأسلحة إلى تركيا: أما موضوع رفع الحظر عن صادرات السلاح إلى تركيا فمن الواضح من نص الاتفاق المعني هنا، أنه سيخضع للاعتبارات الأمنية الخاصة بالناتو، وسيجري البلدان (السويد وفنلندا) التعديلات الخاصة في قوانينهما من أجل رفع الحظر السابق. وعلى الأكثر ستعيد الولايات المتحدة الأمريكية النظر في موضوع بيع تركيا طائرات حديثة، وتزويدها بقطع الغيار اللازمة لتحديث أسطولها الحربي.
ويبقى موضوع تسليم المطلوبين من الجانب التركي، فما هو وارد في النص يبين أن المقصود هو بالدرجة الأولى تحديد القواعد التي ستعمل بموجبها آلية التحقق والتسليم. وعلى الأرجح لن تكون هناك عملية تسليم فورية لأشخاص في الوقت الراهن. كما أن القانون السويدي لا يسمح بتسليم المواطنين السويديين؛ ولكن الموضوع برمته سيكون في انتظار معرفة طبيعة وقوة الاثباتات التي ستقدمها تركيا بخصوص المطلوبين، وبما ينسجم مع القوانين والقواعد الوطنية السويدية والفنلندية، والقواعد الأوروبية في هذا المجال.
هل ستكون هناك انعكاسات لهذا التوافق الثلاثي على الواقع السوري باعتبار أن واجهات PKK تتحكم، بدعم أمريكي وغربي، على ما يقدر بنحو ثلث مساحة البلاد؟ وهل سيساهم هذا التوافق في تعجيل أم في تأجيل أو حتى الغاء العملية التركية العسكرية الجديدة التي تحدث عنها الرئيس التركي؟ وهل ستكون هناك جهود لوضع حل عادل للمسألة الكردية في تركيا لسحب البساط من تحت أقدام PKK؟
المعطيات والمؤشرات في هذا المجال ما زالت متداخلة، وهي مرتبطة إلى حد كبير بتطورات الحرب الروسية في أوكرانيا، وتبعات نجاح أو إخفاق المباحثات الخاصة بالملف النووي الإيراني، وطبيعة التفاهمات أو التوافقات التي ستكون في قمة الرئيس الأمريكي المرتقبة مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، ومحركات الوضع الداخلي التركي.
ولكن ما يمكن أن تساعد فيه الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك دول الاتحاد الأوروبي السوريين والأتراك في الوقت ذاته في هذا المجال، هو أن تستخدم الدول المعنية نفوذها وأوراق ضغطها في سبيل انجاز عملية فك الارتباط المشار إليه بين «PYD» و «PKK»، وتستخدم في الوقت ذاته علاقاتها مع الجانب التركي لتحريك موضوع العملية السياسية، وذلك بهدف الوصول إلى حل عادل سلمي للقضية الكردية في تركيا، ضمن إطار وحدة الشعب والبلد؛ فمن شأن هاتين الخطوتين إذا تحققتا، أن تساهما في استقرار الأوضاع في سوريا وتركيا وحتى في العراق، وستكون تأثيراتهما إيجابية على مستوى المنطقة برمتها.
*كاتب وأكاديمي سوري