حين تستمع إلى إلقاء حنين أبو جبّة، تجد أن الصوت لا يخرج من مجرد فم، بل ينبثق من أعماق ذات متحرّكة، حاضرة بكل جسدها وروحها. في نبرتها تأمل، في ترددها حكمة، وفي تصاعدها حزمٌ يتكئ على تروٍّ مدروس.
ليست تردّد الكلمات مجرد حروف بل تشكّل خطوطًا مدروسة، تعبر حدود الكتابة إلى فضاء يقيم فيه المعنى بين لغة العقل ودفء المشاعر.
تتأنّى حين تنطق، فتخترق الصمت بلا صخب، وتترك في الأفق وقفات تستحث السكون، فتحتضن الحضور بجاذبية غير متكلفة.
حنين ليست مرتجلة، بل مختارة، تنتقي الأدب بحس عالٍ، فتسلّح نصوصها بتدرّجات دقيقة من الصوت والوقف واللعب بالوزن والإيقاع، تخلق بذلك نسيجًا يليق بكل كلمة، وكأنها ماسة مصقولة لا تُسمح بأي خدش عليها.
حين تلقي، يتبدد الطابع الجاف للنص المكتوب، ويُحل محله حضور غامر للذات، يصحب كل حرف إلى عمق فكرها وتجاربها، كأنّها تقرأ بين السطور منبع الحياة، وتُخرج في كل نفَس جزءًا من ذاكرتها الحية.
تشدّ الحضور إليها ليس فقط بصوتها، بل بصدق حضورها الكامل، بحركاتها البسيطة التي لا تزيد على ما يلزم، وبعينيها التي تخفي داخلها مرآة من التأمل والوعي.
هي الصوت الذي لا يكتفي بأن يُسمع، بل يطال الزوايا المنسية في داخلنا، يستدعي الذكريات المطمورة، ويوقظ الرغبة في التماهي مع النص.
حنين أبو جبّة ليست مجرد قارئة، بل هي راهبة اللغة، تراعي القدسية في كل لفظة، ولا تسمح للنص أن ينزلق إلى رتابة، بل تحييه في كل مرة، تزرع فيه روحًا تجعله نبضًا لا يُنسى.
في مرحلة اللغو التي نحن فيها، لا تزال نبرتها تمثل صرحًا من الصفاء، حيث يصبح الإلقاء احتفالًا بالكتابة، وإعلانًا عن قدرة الشعر على البقاء حيًا خارج صفحات الكتب، في ذاكرة الصوت والوجدان.
لذا، ليست حنين أبو جبّة معفيّة من الحضور أبدًا؛ فمن تكتب الشعر كما لو تُلقي السلام على العالم بأسره، ثم تضمه إلى صدرها، لا يُغتفر غيابها، ولا يُقبل أن تترك الساحة نهبًا للصمت أو لضجيجٍ أقل شأنًا؛ فالأصوات التي تُوقظ الأرواح خُلقت لتبقى، ولتحرس اللغة من الغياب.
اكتشاف المزيد من Romav
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.