” كلما سمعت كلمة مثقف ، تحسست مسدسي ” عبارةٌ قالها وزير آلة الدعاية النازية ، و ذراع هتلر الضارب بول جوزيف غوبز ، لتدمير كل منتقديه . و المنسوب إليه القول الشهير : ” اكذب ، ثم اكذب ، حتى يصدقك الناس ” .
لاشك أن الثقافة إرثٌ علميٌّ معرفيٌّ جماليٌّ لصيقٌ بالحياة ، معنيٌّ بكل القيم الإنسانية .
كما هي أداةٌ تضيء شمعة العقل لحذقه و شحذه ، تشعل فتيل الفكر لتنوير فضائه و تفتح مداركه .
تمدد آفاق الموهبة لنموها ، فتغذي الذهن لتنشيطه ، تفتح الشهية للتحليل و النقد ….
علاوةً على أنها تملآ النفس عفةً ، و تؤدب الذوق رفعةً .
باعتبار أن الثقافة فريسةٌ دسمةٌ ، فإن رجال أمن كراسي الطغاة يطاردون فرسانها المعاندين و روادها المشاكسين بتهمة إثارة الشغب ، بغية اصطياد بعض الرموز الحاذقين منهم ، لانضمامهم إلى آلة الدعاية الدكتاتورية ، وتجنيدهم في إعلامها برتبة بيدق .
ثم اسناد مهام تجميل وجه الطغاة إليهم ، بتلويث أدمغة الناس و تضليل الرأي العام ، بشيطنة كل رأيٍ معارضٍ ، و تشويه سمعة المنتقدين تسويغاً لقتلهم ، و تبريراً لطحنهم و الترويج للمستبد على أنه المخلص الوحيد للشعب و المنقذ الأوحد للوطن .
و لِمَ لا يشرعن جرائم السلطة ؟ وهو جنديٌّ يستمد قوته تحت مظلة السلطة الظالمة ، و قد اكتنفه الحاكم بيدقاً في مشروعه اللاوطنيِّ و فتح منبره الإعلاميِّ له ، لانبعاث تبريرٍ ثقافيٍّ لكل ممارساته البشعة ، و تشويه الفكر التنويريِّ و تلطيخ سمعة كل دعاة النهج الوطنيِّ .
نعم إنه مثقفٌ سلطويٌّ مهمته التطبيل للطاغي و التزمير
للدكتاتور ، كما انتهازيٌّ وصوليٌّ ، ينشأ ثقافة النفاق و الاستلاب تكريساً لواقع التجسس و الفشل و الانكسار، و العمالة للقوى الخارجية لبسط هيمنة سيده و حصوله ما يبتغيه من تكديس المال و اعتلاء المناصب و كسب الجاه ، على حساب بؤس طبقات الشعب الفقيرة و تمزيق الوطن .
و الأهم نجاته من مقصلة الحاكم الشرهة بقطع الرؤوس اليانعة حين موعد قطافها .
مقابل قلةٍ من المثقفين الحقيقين الملتزمين بقضايا الشعب و قيادة عمليات التغيير في مواجهة الفئة العميلة من مرتزقي الثقافة و العلم – بيادق الأنظمة الحاكمة – كما يرفضون الهبوط من شاهقات المعرفة الناضجة و القيم العلمية الناضرة ، للمثول أمام رواد الفكر الواحد و رموز الفكر الشموليِّ ، أو الرضوخ لدعاة نشر الخرافات و الأساطير ، مروجي فتاوى الجهل المقدس لإباحة الذبح و السبيِّ و القتل ، و تسخير جمود الفكر و انغلاق العقل لمصالح مذهبيةٍ و طائفيةٍ أو حزبيةٍ …
و هنا تكمن معاناة المثقف الحر ، و محنة العقل و اكتئاب الفكر لتهميش المبدع و إقصاء المفكر الواقعيِّ ، لهيمنة الفكر السلفيِّ على كل مفاصل الحياة .
لذا فالاصطفاف خلف النخب الثقافية واجبٌ حتميٌّ – مهما كان الواقع مؤلماً مخيباً للآمال – للتشجيع على مضاعفة المجهود الفكريِّ و المردود الثقافيِّ ، لخلق الإبداع و توسيع مدارك العقل ، فإنشاء مشاريع وطنيةٍ بمحتوى إنساني و مضمونٍ ديموقراطيٍّ ، و الانفتاح على روافد الثقافة العالمية ، و تفاعل الفكر مع الحضارات ، للإنسلاخ من شرنقة الانغلاق و الجمود و اللحاق بالدول المتقدمة في الميادين كافةً .