قصة قصيرة .. رائد محمد
الساعة تشير إلى نهاية القرن العشرين إلا خمسُ سنوات ، المكان مفتوحٌ على صفحة الأقحوان النجمي المَذهب والفصيلة ، سكةُ حديدةٍ من روح المعدنِ الصلب تخترق تماوج البياض المصفر اقحواناً البابونج المغامر كل ربيع ، بالقرب من الأسلاك الفاصلة بين جسد واحد ، (سرخت) الاقليم الذي الصق عنوة عن اتفاقية سيفر بتركيا الكمالية ، و (بنخت) الاقليم الملحق بدولة جديدة ظهرت مع قدوم الفرنس إليها وسميت بسوريا ،وذلك في عهد مات العثماني المريض فتقلصت الاراضي التي كان يحكمها وبدأ الجوار بالتحرر ، جمهرة الأطفال بالقرب من السكة المتقنة بفعل الألمان المهرة في السنة الثانية عشر بعد بداية القرن ذاك ومن الصلب المصبوب في قوالب ، الليرة حديد قالها أحدهم ، وأردف : من يضع ربع ليرة تصبح نصف ليرة ومن يضع نصف تصبح ليرة كاملة ، والليرة تصبح أكبر من حجمها بضعفين ..!
هكذا قال أحمدو ذي الشعر الاحمر ، جفل الأطفال فجأة من صوت الوحش الحديدي القادم من جهة الشرق ، أنه قطار البضائع قادماً من المحطة القديمة صوب البوابة الحدودية ، البوابة تلك لم تكن سوى عبارة عن منفذ صغير عبر الاسلاك الشائكة ، مجموعة من العوارض الحديدية ، تكفل جنديين من الجيش التركي بتحريك تلك العوارض داخلين بأحذيتهم العسكرية داخل بنخت (سموها ما شئتم) قتلوا في حينها العشرات من ازهار البابونج بالأحذية الأربعة التي وطأت لتوها حدود الدولة التي لا حراس لها ها هنا ،
قال شيار ذي السنوات الاثني عشر من يملك نقوداً فليضعها على السكة ولنرى ادعاء احمدو ..!!!
فأخرج شيركو نصف ليرة وضعها على السكة ، البقية لم يكن يملكوا شيئاً ولربما لم يرغبوا بأن تنتحر نقوهم في مغامرة غير محسوبة العواقب ، فأستعاض احدهم بوضع حجرة صغيرة على السكة فقلده أخر وهكذا ، الحجارة كثيرة ولن نخسر شيئا ، هكذا قال أبن حفصدي ، الطفل الذي يتظلل بخيال أمه اينما ذهب ، الحجر حكايتنا ، أمه حفصدي تقسم لجاراتها : نحن الكورد خلقنا من الحجر وسنتحول إلى حجر بعد الممات ، التراب حجر قد تفتت من غدر المياه به .
بصرخة من احمدو ابتعد الاطفال من السكة ، الوحش الحديدي يقترب ، صوت الصفير يعلوا ، الطريق أمامه مفتوح ، ثمة هالة سوداء تنطلق من مقدمة القطار ، تخترق السماء ، وصوت الجرس يعلو ، لم يعترض طريقه سوى بضع حواجز صغيرة من فعل الاطفال المنتمين لحي قدوربيك المجاور ، ونصف ليرة معدنية ،وصل القطار بسرعة ودخل الحدود ، تجمهر الاطفال مباشرة أمام السكة ليروا نتيجة تجربهم الممتعة ، بعض فتات الحجر المطحون منثور هنا وهناك ، تعالت الضحكات الطفولية،
انهمك شيركو باحثاً عن ليرة ولدت من رحم أمها النصف ذات ٥٠ قرشاً ووالدها الوحش الحديدي، في سفاح معلن ، أمام أعين الأمم المتحدة المتخاذلة والدول العظمى الجشعة والإمبراطوريات المتهالكة والممالك التي تريد سرقة صفات الإله ،
بحث هنا وهناك استعان بأصدقائه باحثين ولكن دون جدوى ، رفعوا احجار السكة السوداء حجراً حجراً ، رفعوا الحلزونات المتجمعة تحت تلك الاحجار وبالقرب منها، حول الاخشاب الرابطة للسكة ، فتشوا في الاتفاقيات المعلنة والسرية والمعاهدات ولكن من دون جدوى .
طارت مع الريح قال احدهم ، بل التصقت بدولاب القطار رد آخر ، ربما غاصت في السكة من نتيجة الاحتكاك ، فسر طفل اخر ، وهكذا توالت التفسيرات ، اقتربت الشمس من المغيب ، سنوبخ لقد تأخرنا عن موعد الأمم فلنعد إلى الحي ، لم يلحظ الأطفال عودة الجنديين الذين اغلقا الحدود الدولية ، بوابة مدخل سكة القطار وقتلهم للمزيد من ازهار البابونج ، قال شيركو: لقد أخذ سائق القطار ليرتي ليشتري صموناً من نسيبين .
اعترض احمدو متهكما : ربما سرق البابونج ليرتك .
وماذا يفعل البابونج بالنقود ، قال زيرو ..؟؟
رد احمدو : البابونج يحب النقود .
قال زيرو : كيف يحب البابونج النقود وها هو قُتل لتوه من قبل جنديين من العساكر الترك ..!!
البابونج يحب الغناء ، هكذا قالت لي جدتي ، قال احمدو ربما اخذ ثمن غنائه …!!
رد زيروا : لا الريح تتكفل بالموسيقا البابونج يغني مجاناً ،
قال شيركو: فلنرجع إلى بيوتنا ، لقد تأخرنا ، قال احمدو : وليرتك ألن نبحث عنها ..
رد شيركو: سنجدها يوماً ما سنجدها سواء اخذها القطار او الجنديين أو البابونج، سنجدها وحينها ربما ستلد لنا المئات أو الألوف او الملايين من الليرات ..
قال احمدو : السورية ام التركية ..؟ رد شيركو: الكوردية نعم الكوردية ، يوماً ما .