د.محمود عباس
رحبت العشائر الكوردية في الجزيرة بالقبائل العربية المهاجرة من شمال شبه الجزيرة العربية في نهايات القرن الثامن عشر، بقدر ما استطاعت في ظل هيمنة الإمبراطورية العثمانية، وتقبلت العيش المشترك، بعد خساراتهم في معارك الحائل (1901-1921)، على مبدأ الأمة الإسلامية، وتنازلت لهم عن قسم واسع من مراعيها في شمال نهر الفرات، بشكل سلمي، لترعى فيه قطعانهم، خاصة بعد الصراعات الدامية بينهم في بادية الشام، ولكن وبعد عقود من وجودهم كضيوف رحل، بدأت مرحلة التمدد نحو الشمال، وظهرت المناوشات، خاصة خلال مرحلة التحضر في بداية العشرينات من القرن الماضي، والتي صعدت مع الأيام لتصل إلى مرحلة التحريض الممنهج من قبل الأنظمة العروبية.
مع ذلك وفي مرحلة ظهور مفهوم الوطن السوري بعد الاستقلال، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، تقبلها الكورد رغم المعاناة من إشكاليات إقامة الحدود الاصطناعية وتقسيم كوردستان وشعبها، تبناها الحراك الكوردي، السياسي والثقافي، على السويتين النظرية والعملية، لكن وللأسف كان رد فعل الأنظمة العربية سافراً، لربما رهبة من ردود فعل الشعب الكوردي، أو عدم القناعة على ما تم من تقطيع لأوصال الشعب الكوردي وجغرافيتهم؛ تمزيق عشائرهم وعائلاتهم عن بعضها.
في هذه المرحلة تأثرت شريحة من أبناء القبائل العربية المهاجرة، ليس بمفهوم الوطن، بل بما نشر من أفكار عن سيادة القومية العربية، وإلغاء الأخر، متناسية المودة التي قدمها الكورد لهم، وتمادت فيما بعد مع الموجة العنصرية البعثية العروبية، قادتها مجموعة من الكتاب والسياسيين، الذين لا يمتون إلى ثقافة القبائل العربية الأصيلة، مع ذلك ظلت العشائر الكوردية وفيما بعد الحراك الكوردي متمسكين بالمفاهيم الوطنية، ويعملون على أن تكون الجزيرة أرض مشتركة، لوساعة المنطقة في مرحلة كانت النسب السكانية قليلة فيها مثلما كانت في كل العالم، والوداعة الكوردية المعروفة، والتي استغلتها الأنظمة العربية العنصرية المتتالية، والتي دمرت على أسسها الوطن والتآلف بين الشعبين الكوردي والعربي.
فما حصل، هي أن الوطنية همشت، وألغيت أمام الموجة القومية العربية، وقوبلت الوطنية الكوردية بمخططات التهجير وبناء المستوطنات العربية وتعريب الجزيرة، وهو ما أدى إلى ظهور شريحة ثقافية عروبية من بين أبناء القبائل، تسخر ذاتها وقلمها للسلطات العنصرية، وقد سهلت هذه عمليات تجنيدهم وتوجيههم نحو محاربة الكورد بشكل خاص في وطنهم وعلى أرضهم، لأنها القومية الوحيدة المنافسة ديمغرافيا وجيوسياسيا، ومن حينها بدأت مرحلة تعريب الجزيرة الكوردستانية بشكل ممنهج، وكدعم لهذه المخطط نشرت كتب ودراسات محرفة عن تاريخ الكورد في الجزيرة، رافقتها كتب تفتقر إلى المصداقية عن تاريخ القبائل العربية فيها، والمراحل التي قدموا إليها، وهو ما نود أن نبينه هنا وبعجالة.
ففي مقولة للقلقشندي (1355-1418م) من كتابه (قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان) الصفحة (11-12) حول الفترة التي قدم فيها العرب إلى الجزيرة يقول ” وجزيرة العرب هذه تشمل على خمسة أقسام…ويدخل في هذه الجزيرة قطعة من ببلاد الشام، منها: تدمر وتيماء، وتبوك… ولم تزل العرب بعد ذلك كله في التنقل عن جزيرة العرب والانتشار في الأقطار إلى أن كان الفتح الإسلامي، فتوغلوا في البلاد حتى وصلوا إلى بلاد الترك وما دناها، ونزلت طائفة بالجزيرة الفراتية) ويضيف على لسان صاحب مسالك الأمصار في الصفحة(71) “وبالرحبة قوم من ربيعة” والرحبة هي منطقة تقع في جنوب مدينة الميادين أي جنوب الفرات الأوسط.
كما وأن استناد بعض المؤرخين العروبيين حديثي العهد، على رسالة الخليفة عمر بن الخطاب، لأبي عبيدة أبن الجراح التالية: ” فإذا قرأت كتابي هذا فأعقد عقد لعياض بن غنم الأشعري وجهز معه جيشا إلى أرض ربيعة وديار بكر” غير كافية، أولاً، لأن الرسالة ليست متواترة فقط، بل مطعونة فيها، وشكك فيها العديد من المؤرخين المسلمين، وجعلها البعض جناية، وهي سذاجة وتلاعب وفبركة في التاريخ إلى حد السخرية، لأن، أبا عبيدة توفي في عام 18 هجرية، بمرض طاعون عمواس، التي رجع بسببها عمر بن الخطاب إلى المدينة، من رحلته نحو القدس. وكانت حينها جيوش العرب لا تزال تقاتل على أطراف الشام، وكان عياض بن غنم لا يزال في جيش أبي عبيدة، وحتى البادية الشامية جنوب إمارة الغساسنة التي لم تكن قد فتحت بعد، ولا مدينة قيسارية ذاتها على غرب الشام وهي مدينة ساحلية بأجناد أرض فلسطين، فتحها معاوية في عهد أخيه يزيد ابن أبي سفيان والي الخليفة عمر بن الخطاب بعد وفاة معاذ بن جبل الذي خلف أبي عبيدة، ويقال بأن مجموعة من جنوده بلغوا الفرات الأوسط، لكنهم رجعوا إلى فلسطين.
وثانياً، لأنه في الرسالة يتم ذكر أرض القبائل وهي تقع في جنوب الفرات الأوسط، وأطراف بادية الشام، ولا تعني أرض الجزيرة، ولا المناطق الكردستانية التي أضفيت عليها أسماء هذه القبائل لاحقاً.
ويقول البلاذري(820م-892م) في كتابه فتوح البلدان، الصفحة (205) ” …قالو ورتب أبو عبيدة ببالس جماعة من المقاتلة واسكنها قوما من العرب الذين كانوا بالشام فأسلموا بعد قدوم المسلمين الشام وقوماً، لم يكونوا من البعوث نزعوا من البوادي من قيس واسكن قاصرين قوماً ثم رفضوها أو أعقابهم. وبلغ أبو عبيدة الفرات، ثم رجع إلى فلسطين” ويقول في الصفحة (245) “لما ولى معاوية الشام والجزيرة لعثمان بن عفان (رضه) أمره أن ينزل العرب بمواضع نائية عن المدن والقرى، …فأنزل بني تميم الرابية، وانزل المازحين والمدبر أخلاطا من قيس وآسد وغيرهم، … ورتب ربيعة في ديارها على ذلك” وربيعة كما ذكرنا سابقاً، وحسب المصادر التاريخية العربية، كانت تسكن في شمال الجزيرة العربية وحتى جنوب الرحبة (جنوب مدينة الميادين) أي جنوب الفرات الأوسط.
أما بالنسبة لحضور بعض القبائل العربية إلى المنطقة وزمن سكنها، فتتوضح في الصفحة (248) كيف أن القبائل العربية استولت على الأراضي التي هجرها أهلها بسبب الغزوات، واسكن الأمراء فيها القبائل العربية فيقول” سألت المشايخ عن أعشار بلد ..، فقال هي أعشار ما أسلمت عليه العرب أو عمرته من الموات الذي ليس في يد أحد أو رفضه النصارى، فمات وغلت عليها الدغل فأقطعه العرب”.
وبالعودة ثانية إلى كتاب البلاذري، فتوح البلدان، الصفحة (464) تتوضح أكثر، عدمية وجود العنصر العربي في جغرافية الجزيرة الفراتية، فيقول “حدثني العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده قال: أول من اختط الموصل وأسكنها العرب ومصرها هرثمة بن عرفجة البارقي” وهرثمة هذا هو والي عمر بن الخطاب بعد أن عزل عنها عتبة بن فرقد. ومعروف تاريخيا أن الموصل كانت من أحد معاقل الأكراد التي تم فتحها في عهد عمر بن الخطاب. ويتمم في الصفحة ذاتها (464) فيقول ” ووجد بالموصل ديارات، فصالحه أهلها على الجزية، ثم فتح المرج وقراه وارض باهذرى، وباعذرى وحبتون والحيانة والمعلة ودامير، وجميع معاقل الأكراد”.
كما ويقول ابن حوقل (…-988م) وهو من مواليد مدينة نصيبين-الجزيرة، تعلم وعاش فيها وكان كثير الترحال، يقول في كتابه (صورة الأرض) ص (199) “وقد سكن طوائف من العرب من ربيعة ومضر الجزيرة حتى صارت لهم بها ديار ومراع، ولم أر أحداً عزا الجزيرة إلى ديار العرب لأن نزولهم بها وهي ديار لفارس والروم”.
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
13/2/2021م