جان كورد
كانت الدول التي تقتسم كوردستان، في أثناء الثورات الوطنية لشعبنا المغدور في وجه الطغيان تمارس ضغوطها على قيادات تلك الثورات، في سرية على الأغلب، لأنها لم تكن تعترف بالوجود القومي لهذه الأمة المجزأة أصلاً لتفصح عن وجود الكورد علناً، فلقد كنا حسب تعريفاتهم جزءاً من الأمة الفارسية في شرق كوردستان وخراسان، وكنا أتراك الجبال في شمال كوردستان، وضيوفاً على عرب العراق وسوريا، وأحياناً كانت تلك الضغوط تصل إلى درجة منع أي صحافي يتسلل عبر الحدود المحروسة جيداً للوصول إلى مقر قيادي كوردي من أجل إجراء حوارٍ مع مسؤولين كورد، مثلما كان التشويش الدائم على محطة الراديو الوحيدة لثورة أيلول المباركة (1961-1975)، كما كانت تلك الدول الغاصبة تمنع أي مساعدة إنسانية قادمة من المجتمع الدولي للبؤساء الذين كانوا يعانون في الكهوف وفي خيام اللجوء بسبب الحصارات المتتالية، رغم قساوة الظروف في وديان وجبال وطنهم الذي كان يتعرض لقصف المدافع والطائرات، كلما أمر بذلك طغاة الحكام المستبدين بشعبنا. وفي أغلب الأحيان كان التواصل السري بين الحكومات التي لا زالت تقف في وجه طموحات أمتنا مستمراً وبينها إتفاقيات سرية بهدف العمل المشترك لإحباط أي نجاح نحققه في أي مجال كان. وبين الحين والحين كانت تلك القوى المعادية تطلق التهديدات العلنية ضد الثورة الكوردية، أو ترسل قوات لمشاركة جيش آخر يحارب المقاتلين الكورد، كما حدث عندما أرسلت الحكومة السورية فرقة اليرموك بقيادة فهد الشاعر لمحاربة ثورة أيلول المجيدة إلى جانب الجيش العراقي.
إلاّ أن كل التحالفات الظالمة لم تتمكن من كسر شوكة المقاومة الوطنية لحركة التحرر الكوردستانية لعدة أسباب، منها وجود خلافات مصلحية بين تلك الحكومات ذاتها، وقدرة القيادة الكوردية على استغلال تناقضاتها، وعلو همة المقاتلين الكورد، أحفاد الكوردوخيين والميديين الأشداء.
اليوم، زالت العزلة الخانقة التي كان يئن من شدتها الكورد عقوداً من الزمن، وتنامت قواهم المعنوية والمادية، وامتلكوا ساحات هامة من خريطة صراعهم من أجل وجودهم الذي كلفهم الكثير من التضحيات وجلب لهم الجراح والمآسي المتتالية، ويمكن القول بأن مرحلة الكفاح في سبيل صون الوجود القومي قد انتهت، فتعداد الكورد اليوم في تزايد مستمر، ولهم الآلاف من خبراء السياسة والدبلوماسية والأصدقاء في شتى أنحاء العالم، وبيشمركتهم المحاربون صاروا قادرين على مواجهة أعتى جيوش المنطقة، وهم مدربون جيداً وفي أيديهم من الأسلحة ما يفوق عشرات المرات بنادقهم البسيطة التي كانوا يفتخرون بها سابقاً، كما لديهم إعلامٌ هائل في تطور وتحسن يوماً بعد يوم بحيث يخاطبون به شعبهم في سائر أنحاء وطنهم، رغم الحدود والقيود، ولهم عشرات الألوف من الشباب الذي يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، وتكاد تزول بينهم النزاعات العشائرية والمذهبية والطائفية والفئوية الضيقة، وانتشرت جالياتهم بأدبائها وفنانيها وأطبائها وناشطيها السياسيين في شتى أنحاء العالم، وتعلموا كيف يتواصلون مع مختلف اتجاهات السياسة الدولية والاقليمية والدخول معها في حوارات وعقد اتفاقيات اقتصادية وثقافية وتحالفات معها، بل صار بعض أعداء الماضي ساعين لكسب مودة الكورد في صراعاتهم السياسية فيما بينهم، بل للكورد اليوم في دولة العراق برلمان معترف به دستورياً واقليم باسم كوردستان تحكمه حكومة منتخبة ورئيس وقوات خاصة بهم… ويجدر بالذكر هنا أن ثمة محافظة في دولة إيران باسم كوردستان أيضاً… ولكن رغم ذلك فإن وزير دفاع دولةٍ لاتحب الكورد يزعم أن ليس ثمة كوردستان في العالم، كما أننا أنجزنا الكثير اقتصادياً منذ أن سقط نظام الطاغية صدام حسين في عام 2003 على أيدي التحالف الدولي. والذي يشك في إنجازاتنا فليذهب في زيارة إلى إقليم جنوب كوردستان ليرى ماحققه محاربو الجبال بالأمس من نقلة نوعية على طريق التقدم في سائر المجالات.
ولكن… لماذا نقول: كوردستان في عين العاصفة؟
منذ أن سقط الصنم في العراق في عام 2003، ونال الكورد بعض حقوقهم المشروعة التي قاتلوا من أجلها ردحاً من الزمن، ودخلوا معترك السياسة العراقية كطرفٍ ذي شأن وقدرات، شرع أعداؤهم في الوقوف معاً بصلافة وعلانية ضد كل ما يحققه الكورد على مختلف الصعد، إلاّ أنهم ظلوا هادئين بعض الشيء على أمل “تدجين” أو “ترويض” الاقليم الكوردي في العراق وفق حساباتهم وإحداثياتهم الاستراتيجية، ومن ذلك الرغبة في التحكّم بالسوق الكوردية والسيطرة عليها، مستغلين الحاجة الماسة للاقليم في إعادة إعمار البلاد وتقوية الذات بعد الضعف والدمار والهلاك، ولكن عندما تم الإعلان عن الاستفتاء من أجل الاستقلال، الذي بات ضرورياً بسبب تراجع القوى الحاكمة العراقية عن وعودها للكورد ونكفوا عن تنفيذ بنود الدستور العراقي، ومنها حصة الاقليم من الأموال وتعويضات الحرب وحقوق ذوي الشهداء ورفضوا تطبيق المادة 140 من الدستور المتعلقة بالمناطق المقتطعة من كوردستان، وجاءت نتيجة الاستفتاء باهرة ولصالح الاستقلال بنسبة 93% من أصوات الناخبين الكورد والأقليات التي تعيش في كنفهم، كشّر الأعداء عن أنيابهم في وضح النهار، وبدأت التهديدات العلنية تنهال على الشعب الكوردي من كل حدبٍ وصوب، رغم أن الاستفتاء كان لمعرفة ما يريده هذا الشعب فقط وليس لإعلان الاستقلال الفوري، ورغم أن تهديداتهم تدخلٌ سافر في شؤون العراق الداخلية، بل وصل بهم الأمر إلى سد المنافذ الحدودية ومنع الطيران إلى الاقليم ومنه، والتهديد بتجويع الشعب الكوردي وحرمانه من كل حقوقه الإنسانية أيضا… فأضطرت القيادة الكوردية في الاقليم إلى التراجع خطوةً إلى الوراء، وبخاصة فإن الحلفاء الداعمين لها تبخروا في الجو ضماناً لمصالحهم البترولية والاستراتيجية الهامة مع أعداء الكورد، بعد أن وعدوا بعدم الوقوف ضد طموحاتهم العادلة.
ثم تطورت الأوضاع بأن بات التدخل في كل الشؤون العراقية الداخلية من حقوق الجيران، ومنها حق التدخل العسكري، قصفاً بالصواريخ على مقرات الأحزاب المناوئة لهم من طرف وقصفاً من الجو من طرفٍ آخر والتوغل في أراضي الاقليم، عسكرياً ومحاولة فرض أشكال الحكومة وعناصرها ووضع شروطٍ لها في مجال تصدير البترول والغاز ، والسعي المستمر لتحديد من يجب أن يحكم العراق وكوردستان. ولقد أثبتت خيانة 16 أوكتوبر واحتلال مدينة كركوك، وكذلك هجمات تنظيم الدولة الإرهابي على المواقع الكوردية وعلى المكون الإيزيدي الكوردستاني بهدف إبادته بوحشية لا توصف أن كل أعدائنا أشد اتفاقاً في وجه الطموح، بل الوجود القومي الكوردي، عما كانوا عليه في عهد حرب الأنفال واستخدام السلاح الكيميائي والتهجير والتغيير الديموغرافي.
ولا تختلف عن هذا نظرة السياسات المعادية لشعبنا في غرب كوردستان أيضاً، فأعداؤنا لا يحاربون التنظيمات الإرهابية، وإنما يسعون للقضاء على كل الذين يحاربون تلك التنظيمات لأن رأس رمح القتال ضد الإرهاب هم الكورد، فها هي تهمة “الانفصال” و”الرضوخ لمشيئة الشيطان الأكبر” و”العلاقة مع اسرائيل” و”التعفيش” “وطرد العرب السوريين” على كل لسان إعلامي، على الرغم من أننا نحن الذين نتعرّض للتغيير الديموغرافي ونعاني من التعفيش الظالم و أن الذين يركعون للشيطان الأكبر والأصغر هم أعداء الكورد أنفسهم… فها هي منطقة عفرين الكوردية تعاني أشد المعاناة من الاحتلال والتغيير السكاني والإذلال والإرهاب، ولو كان الكورد تابعين للأجنبي لساعدوهم افي نيل حريتهم واسترجاع وطنهم، مثلما ساعدوا الأعداء ولا زالوا حتى الآن يساعدونهم… ولكانوا يقبلون بنتيجة الاستفتاء الذي كان امتحاناً عظيماً للديموقراطية.
طبعاً، ثمة مشكلة كوردية كبيرة تكمن في أنهم لا يستطيعون التوحد لشدة التجاذبات الاقليمية وتأثيرها فيهم، ولاستمرار التنافر الداخلي بينهم، وعدم قدرتهم على بناء منظومتهم السياسية على أساس الحوكمة والمعارضة، فكلهم يريدون الحكم والتحكم وقلة هم الذين يكتفون بأن يكونوا في المعارضة الديموقراطية.
ومثلما وقف معظم أعدائنا مع صدام حسين ضد شعبنا، فإن الأحداث الأخيرة في جنوب وغرب كوردستان تثبت أن غالبية الأعداء يفصحون عن كرههم وحقدهم على شعبنا ويرفضون حقوقنا جملةً وتفصيلا، وهذا ما يظهره سياسيوهم في الحكومات والمعارضات ويعكسه إعلامهم السمعي والمرئي، كما رأينا في موضوع “سجن الصناعة في غويران” بمدينة الحسكة السورية…
فهل لنا استراتيجية تنقذنا من العاصفة التي نحن نتعرّض لها من جديد؟
31/01/2022