روماف – رأي
بات واضحاً أن العلاقات بين الحكومة التركية ونظام الأسد قد خرجت تماماً من حقول التنسيق الأمني السري إلى اللقاءات العلنية وانتقلت بالفعل إلى مستويات أعلى وبوتيرة أسرع مما كان متوقعاً لبعض أطراف المعارضة السورية، وأجنحة الأسلمة السياسية منها على وجه الخصوص ، وكل المؤشرات تدل على أن تلك العلاقات ستشهد تغييراً كبيراً وفي مختلف المجالات خلال المرحلة المقبلة، ومن المتوقع أن تنتقل إلى مستويات متقدمة في الجوانب السياسية والعسكرية والتجارية العلنية فيما إذا ” سمحت ” الولايات المتحدة الأمريكية بذلك ، وخاصة بعد أن أصبح رأس النظام وعشرات المقربين منه في دائرة الإستهداف الأمريكية بعد أن أصدر مجلس النواب الأمريكي القانون الخاص بـ تجارة وتعويم المخدرات من قبل المتهمين المذكورين ، حيث وقع عليه الرئيس بايدن وتم رفعه إلى مجلس الشيوخ للمصادقة عليه ليصبح نافذا خلال 180 يوما بعد توقيع الرئيس ، وتم إدراجه ضمن ميزانية البنتاغون إضافة لحزمة عقوبات أخرى أعلن عنها مساعد وزير الخارجية الأمريكي والتي تمنع الشركات والمنظمات والهيئات وحتى الأفراد بالتعامل مع النظام ورموزه .
لكن التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأتراك قطعت الشكوك في هذا المسار وهو شيء طبيعي في عالم السياسة والمصالح والعلاقات بين الدول . حيث قد تشهد العلاقات بين دولتين توتراً وانقطاعاً، ومن ثم عودةً وتقارباً أكبر .
مناسبة العودة لهذا الموضوع مجدداً هو اللقاء الثلاثي الذي عقد في موسكو والذي جمع وزراء الدفاع ورؤساء الاستخبارات لكل من روسيا وتركيا وسوريا في الـ 28 من كانون الأول 2022 ، واللقاء بالأساس كان ثنائياً بين الجانبين التركي والسوري ولكن برعاية روسية . وجدير ذكره أن هذا اللقاء ليس الأول ولن يكون الأخير في مسار المصالحة والتطبيع وعودة العلاقات بين الدولتين بعد انقطاع دام لعقد كامل إثر انطلاق موجة الاحتجاجات الشعبية في سوريا في منتصف آذار 2011 . ومن جهة أخرى فإن اللقاء لم يكن مفاجئاً لمن يعمل في حقول السياسة ، وكذلك لمن يراقب سياسات القيادة التركية التي يغلب عليها البراغماتية حيث يمكن أن تحصل استدارة كاملة في العلاقة مع أي دولة بعد توتر وانقطاع إلى اللقاء والتطبيع والازدهار كما حصل مع اسرائيل وبعض الدول العربية في مجلس التعاون الخليجي كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية . وبالتالي فإن مانشاهده من لقاءات علنية بين الجانبين التركي والسوري كان متوقعاً . ومايهمنا كسوريين بشكل عام والمنخرطين في خندق معارضة نظام البعث بصورة خاصة من هذه اللقاءات هوما قد يتمخض عنها من تداعيات سلبية على عمل مؤسسات المعارضة المختلفة .
علماً أن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي يتخذ من تركيا مقراً له ولمؤسساته وحكومته لم يصدر منه أي موقف يرتقي لمستوى التطورات الحاصلة في هذا الجانب وكان وزير خارجية تركيا جاويش أوغلو واضحاً في المؤتمر الصحفي الذي عقده على هامش اجتماع تقييم نهاية العام لوزارته في أنقرة بأن المعارضة السورية لم يكن لها أي رد فعل سلبي على الخطوات التي اتخذتها تركيا فيما يتعلق بالعلاقة مع النظام السوري ، وأضاف أوغلو بأن تركيا ضامنة للمعارضة السورية ، وجدد دعوته بضرورة توافق المعارضة السورية مع نظام الأسد وأكد على أهمية التواصل بين حكومته والنظام السوري، ووصف الاجتماع الذي جمع ممثلي بلده مع ممثلي النظام السوري وبحضور الراعي الروسي بأنه كان مفيداً … إلخ . ولكن ربما ما يعرقل أو يفرمل عجلة التقارب بين تركيا ونظام الأسد هو الموقف الأمريكي الذي يتلخص في : ” عدم دعم أية عملية تطبيع مع النظام ، وتصفه إدارة الرئيس بايدن بالدكتاتوري ، وتؤكد الولايات المتحدة بأنه لم تتغير سياستها تجاه نظام بشار الأسد ، وأن أمريكا ستواصل العمل مع الحلفاء والشركاء لضمان وجود حل سياسي دائم في سوريا وفق القرار 2254… ” . ولكن غالبية التوقعات ترجح بأن العلاقات بين الطرفين- التركي والسوري – ستمضي قدماً نحو المصالحة والتطبيع ، وتذهب هذه التوقعات بأن يلتقي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس السوري بشار الأسد في موسكو خلال الربع الأول من 2023 على أبعد تقدير . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي درجة سوف تنجح القيادة التركية في الحفاظ على التوزان والبقاء في المساحة الحيادية – الآمنة بين ماصدر من مؤسسات القرار الأمريكية حول رأس النظام السوري واتباعه ومقربيه من قوانين تتهمه لا بل تدينه وأركان نظامه بتجارة المخدرات ، وبين السير في المصالحة والتطبيع مع الأسد ؟. ولكن بغض النظر عن نتائج هذه اللقاءات التي تتخوف منها غالبية أطراف المعارضة السورية المقيمة في تركيا ومناطق نفوذ الجيش التركي في الشريط الشمالي من سوريا فإنه يجب ألا يتم النظر إلى أية دولة وبالتالي تركيا وكأنها جمعية خيرية لتقديم الإغاثة الإنسانية للسوريين . ولكن هناك سؤال يجب أن يسأل كل معارض نفسه وهو :
ماهي الانعكاسات السلبية المتوقعة على عمل المعارضة السورية ومؤسساتها وحكومتها بعد إتمام المصالحة والتطبيع بين الجانبين في ظل الانسداد الذي وصلت إليه الأزمة السورية ، واللامبالاة من جانب المجتمع الدولي بعد الحرب الروسية – الأوكرانية وتداعياتها في ظل الغموض الذي يكتنف الموقف الأمريكي ، وبالتالي الخيارات الواقعية المتاحة أمامها ؟
بدون أدنى شك أن لكل دولة مصالحها، وتلك المصالح هي التي تشكل بوصلتها في أي تحرك وإقامة العلاقات بينها وبين أية دولة أو طرف آخر ، وبالتالي مايجري من تقارب بين الجانبين التركي والنظام السوري ليست مفارقة أو مفاجئة ، بل المفارقة المحزنة – المضحكة أن ننظر إلى تركيا خارج هذه المعادلة ، وبالتالي فإنها ( تركيا ) عندما وجدت مصلحتها في معارضة النظام السوري عارضته إنطلاقاً من مصالحها وليس من أجل مصالح بعض معارضي الصدفة، وعندما وجدت مصالحها في التقارب والمصالحة والتطبيع مع النظام السوري فإنها تسير في هذا المسار وهذا حقها ويخصها ولا دخل لنا كسوريين في ذلك، ولكن الكارثة أن هناك بعض المتصدرين للمشهد السوري المعارض بشكل عام وقيادات أجنحة الأسلمة السياسية التي تسيطر على مفاصل مؤسسات المعارضة بصورة خاصة ربطوا مصير تلك المؤسسات بأجندات تركيا وخلافاتها مع الأطراف الاقليمية والدولية . نعم تركيا تستضيف قرابة 4 ملايين لاجىء سوري غالبيتهم الساحقة من المكون العربي السني المعارض لنظام الأسد، وإنها توفر ملجأً آمناً لـ قيادة الائتلاف كأكبر منصة سورية رسمية معارضة و مكاتب حكومته المؤقتة ، وجديرذكره أن ماقدمته تركيا للاجئين السوريين في الجانب الإغاثي والإنساني وفي مرحلة صعبة جداً لم تقدمه – باستثناء اقليم كوردستان العراق – أي دولة عربية أو غير عربية . لكن هذا لايعني أن ننظر لتركيا وكأنها جمعية خيرية وجدت لخدمة السوريين، لأنها دولة اقليمية كبيرة ، تحتل موقعاً جيو – سياسياً مهماً جداً كبوابة لأوربا، ومطلة على بحار وممرات مائية حيوية، وعضو في حلف الناتو، ولها مصالح كبيرة ومتداخلة مع الجوار الاقليمي والمجتمع الدولي،كما أن لها هواجسها ومصالحها وأحلامها وأهدافها ومطامعها كأي دولة. ومن البديهي أنها سوف تتمسك وتفضل مصالحها على أية مصلحة أو ملف آخر، وهذا مايحصل اليوم . ومايجري ليس غريباً أو مفاجئاً لكل متابع لمراحل الأزمة السورية ولمن يفهم قانون المصالح ومبادىء السياسة. فقط السذج مندهشون من ما يجري في هذا المجال . وهنا نسأل الاخوة في المعارضة السورية ،ماذا كان يجري في أستانا وسوتشي طوال سنوات؟. ولماذا كانت كل تلك المصالحات المحلية التي سلمت بموجبها غوطتا دمشق ونصف العاصمة وحمص وشمالها ،وحلب وغربها، وجنوب ادلب وشمال حماه …إلخ. لماذا كل هذا الاستغراب وأنتم كمعارضة حضرتم جميع جولات أستانا عسكرياً وسياسياً ؟.
وبدون أدنى شك أن قيادة الائتلاف لن تستطيع تغيير توجهات القيادة التركية في مسار التطبيع مع النظام السوري، لأن المراهنة على فشل الحوار أو التقارب بين الجانبين فيما إذا بقيت أمريكا صامتة يعني كمن يخدر نفسه بنفسه ، لأن الأوضاع الداخلية في تركيا وخاصة ما يتعلق بالتحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة التي تعتبر مصيرية للرئيس أردوغان وحزبه، وما يفرض عليهم القيام بجملة اختراقات قد تكون مؤلمة في هذا الجانب ( العلاقة مع النظام السوري )، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ماتقوم بها المعارضة التركية من تحشيد للشارع وتجيشه ضد وجود السوريين،وتحميل السوريين ظلماً أسباب تدهور العملة والغلاء المعيشي ، وبالتالي التمهيد للمصالحة مع نظام الأسد والتخلص من مشكلة اللاجئين السوريين (حسب زعم المعارضة )!.
ولكن من جانب آخر أن موضوع التطبيع يواجه جملة تحديات ليست سهلة وخاصة مايتعلق منها بتعريف الإرهاب وتحديد وتسمية الإرهابيين . من المعلوم أن النظام السوري يعتبر أن كل من حمل السلاح ضده هو إرهابي ، وخاصةً أن غالبية الفصائل العربية السنية المسلحة اليوم ذات خلفية إسلامية راديكالية متحالفة بشكل أو بآخر مع جبهة النصرة المصنفة على قوائم الإرهاب الدولية ، وهذه الفصائل واقعة جميعها في منطقة نفوذ الجيش التركي .
ثانياً أن حزب العمال الكوردستاني التركي الذي استقدمه النظام وسلمه غالبية مناطق كوردستان سوريا المتاخمة للحدود الدولية بين تركيا وسوريا بموجب اتفاقية دوكان المعروفة أيضاً هو الآخر مصنف في قوائم الإرهاب التركية والأمريكية وغالبية الدول الأوربية ، والعمال الكوردستاني التركي يعتبر حتى اليوم من أقوى حلفاء النظام بالرغم من بعض التباينات بين الطرفين . بمعنى أن هناك فصائل قريبة من تركيا مصنفة على لوائح الإرهاب لدى النظام ، وأخرى متمثلة بـ مسميات pkk المتعددة مقربة من النظام السوري ومصنفة على لوائح الإرهاب لدى تركيا . إذاً نحن هنا أمام معضلة حقيقية ، وإيجاد مخرج لها ليس بهذه البساطة . هل النظام السوري قادر على تكرار تجربة 1998 عندما قام بإخراج زعيم العمال الكوردستاني عبد الله أوجلان من سوريا بعد التفاهمات التي توجت بإتفاقية أضنة بوساطة من الرئيس المصري الراحل حسني مبارك ؟. وإذا كان ذلك متاحاً لدى النظام السوري ، ماهو المقابل الذي ستقدمه تركيا ؟. بدون أدنى شك أن المعارضة السورية بشقيها المسلح والسياسي لن تنجو من تداعيات هذا التقارب فيما إذا شاءت الأقدار وحصلت الصفقات والمقايضات .
ملخص القول
بدون شك أن إطالة أمد الأزمة ، وتخاذل المجتمع الدولي ،وابتلاء الحاضنة الثورية بمعارضة لاتختلف غالبية رموزها عن شخوص النظام في مايتعلق بالقضايا الوطنية الأساسية من شكل الدولة المستقبلي وهويتها وطبيعة نظام الحكم فيها ووجود وحقوق مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية والعلاقة بين الدين والدولة ، ودور المرأة والشباب …إلخ. وفشلت المعارضة الرسمية تماماً في صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع ومختلف عن مشروعي البعث والأسلمة السياسية ، وتعثر المسار الأممي للعملية السياسية، وفاعلية مسار أستانا – سوتشي على الأرض ،وغياب أية بوادر لحلول سياسية جدية وواقعية كل ذلك شكلت مناخات ملائمة في محاولات التدوير التي تحصل اليوم . ومايجري هو ضريبة فقدان مؤسسات المعارضة الرسمية لقرارها الوطني المستقل . وكذلك إشكالية الخطأ الذي وقع فيه الحراك منذ البدايات وهو الوقوع في شباك الأسلمة السياسية التي لاتختلف أهدافها عن أهداف البعث وحكوماته المتعاقبة. وبغض النظر عن مدى نجاح روسيا في تحقيق التطبيع بين النظام السوري وتركيا فلابد من الإقرار أن تأثير ذلك سيكون على السوريين عامة والمعارضة السورية بصورة خاصة كبيراً ، ولا يمكن لأحد تجاهل ذلك . وأن المعارضة ليس من مصلحتها انفتاح أي طرف دولي أو اقليمي على النظام وخاصة من جانب دولة مثل تركيا التي تحت نفوذها قرابة عشرة ملايين سوري موزعين بين الداخل التركي كلاجئين والداخل السوري كنازحين في غالبيتهم ، وكذلك مقرات المعارضة الرسمية المتمثلة في الائتلاف وحكومته المؤقتة ، والمحزن أنه في الوقت الذي عبرت الحاضنة الثورية عن رفضها لأي تطبيع أو تصالح مع النظام ، فإن المعارضة الرسمية مازالت غائبة – نائمة وكأن مايحدث لايعنيها!!. ويبقى السؤال الأهم :