قصة قصيرة
كانت المربعانية قد حلت بزمهريرها ، على القرى الكوردية في نقشيوان التي لبست البياض ثلجاً ، وغرقت العديد من الحيوانات في سبات عميق تنتظر دفء الربيع ،
شبّك شمو يديك ثم وضعهما تحت إبطيه، باحثاً عن بعض الحرارة المخبأة وهو جالس على كرسي خشبي متكسر الأطراف بالقرب من النافذة المفتوحة على البياض إثر زجاجٍ مهشم ، حيث كانت الرياح الشمالية القارصة تصفع وجهه بأستمرار، كان والد شمو واقفاً ممسكاً بحبل تدلى من السقف الصفيح المتأكل من شدة الأكسدة ، السقف الذي كاد أن يسقط فوق الرؤوس المتجمعة عنوة أسفله ، المشهد المؤلم كان يكتمل بإيقاع اصطكاك العجلات الفولاذية بالسكة ذات المذهب الحديدي فتصدر صريراً يصم الآذان ، ويعلوه بين كل فينة وأخرى صفير يجفل منه كل شارد ،
توقفت العربات بعد خروجها من نقشيوان لمرات عديدة ليتم حشر سكان القرى والمناطق فيه كورد من جورجيا ، كورد مم أذربيجان و أرمينيا ، ليقذف بهم هذا الوحش الحديدي الكافر في قفاري آسيا الوسطى و سيبيريا وذلك بقرار من الدكتاتور ، كان شمّو الطفل ذي السنوات السبع يسمع بين الفينة والأخرى صراخ أحدهم ، كان الجوع و البرد و المرض يتبرص بهم ، بكاء هنا أنين هناك ، والأقسى من ذلك موت أحدهم في تلك العربات المخصصة للمواشي ،
أما الذين نجو من الوحش الحديدي للدكتاتور ستالين ، كتبت لهم صحراء كازاخستان القاحلة وبراري سيبيريا المقفرة حياة بؤس وفقر مدقع ، في خيام مشردة مشتتة ، و كانت أحدى تلك الخيام من نصيب شمّو وعائلته ، تلك العائلة التي فقدت الأم وأثنين من أبنائها قبل ذلك ، وبعد أن سطعت شمس الربيع من تناثر بعض الغيوم البيضاء وتدفق بعض الينابيع بالأمل ، وفي أحدى صباحات آذار استدعت السلطات الروسية الشباب الكورد من الذين بلغوا الخامسة والعشرين من العمر فما فوق بحجة إيجاد عمل لهم ،
ورغم أن الروس هم من قاموا بتهجير الكورد من وطنهم إلا إن فقدان الأمل جعل الشباب الكورد والرجال يتمسكون بالقشة الصغيرة خوفاً من غرق عائلاتهم في بحر الجوع والفقر والعوز ، لوح شمّو لوالده ذي السنوات الثلاثون الذي بدوره رفع يده لولده الذي تركه تحت رعاية أحدى الخيم المجاورة لخيمته ، كانت أصابع شمّو الصغيرة تلوح للأفق تمسح الغبار المجتمع على الغشاوة المجاورة للكورد ، هذا أبي سيذهب إلى المدينة ليجلب لي آلة الساز لأعزف عليها ، كان شمّو يكلم أصدقائه من حوله ويسرد أحلامه البريئة ، في الشتاء السابع من بداية ثلاثينيات القرن المنصرم في عهد الدكتاتور ستالين ،
في بداية التسعينيات من عصر الخيبات من القرن الماضي وبعد تحطم خارطة السوفييت الزجاجية الهشة ، عاد البروفيسور شمّو مع بعثة ألمانية كازاخية مشتركة ، وعثروا على المقبرة الجماعية بالقرب من مدينة شمكينت جنوب كازاخستان و التي ضمن رفات الرجال الكورد الذي وعدوا بفرص العمل من قبل الروس ولم يعودوا الى أهلهم بعد ذلك الوقت…
وقف البروفيسور شمّو على. أطلال المقبرة ، كانت دمعتان تخترقان الاخدودين من تحت النظارة الطبية وقال لأصدقائه، هنا يرقد أبي ، هنا كان المنفى..
الكاتب رائد محمد هولير٢٠٢٠م