تغيرت المواقع والتوجهات كثيراً بين الأطراف المتحالفة أو المتصارعة، ضمن حلبة الصراع حول/على سوريا. نقلاً من مكان إلى أخر، أو سعياً لأطرافٍ التقرب من أطرافٍ أخرى على مختلف أشكالها. كما شهد الصراع السوري ولادة أجسام عسكرية وسياسية وشبابية عديدة سرعان ما اندثرت أو اندمجت؛ لصعوبة بقائها منفردة في العمل السياسي أمام ضخامة الإمكانيات المطلوب في ظل ضعف الوارد العسكري أو المادي أو البشري لجهات وجدت حجمها يصغر رويدا دون إمكانية السيطرة أو المشاركة في القرار.
بالمقابل فإن تجمع أطراف سياسية ضمن مظلة سياسية واحدة، وهي المتواجدة أصلا ضمن مظلة أوسع، هي النقلة التي يُمكن أن يقال عنها تجمع عكسي. ففي حالة الاندماجات السابقة فإن الأطراف الصغيرة الغير منضوية في واجهة سياسية واضحة كانت تجتمع لتضمن بقائها ضمن جسد سياسي أو عسكري، يحمي مصالحه ويضمن بقائه في دائرة القرار والصراع السياسي. في حين أن جبهة السلام والحرية اختارت الطريق المعاكس في لم شمل أطراف سياسية لبعضٍ منها أجنحة عسكرية، وهي العاملة معاً ضمن حقل السياسية في الائتلاف الوطني السوري. فالمجلس الوطني الكوردي بما يملك من تحالف لأحزاب سياسية وكتلة من المستقلين والشباب وتمثيل المرأة، وكان ينشط من ديرك حتى عفرين، قبل انحسار عمله ضمن محافظة الحسكة، وممثلية في كوردستان العراق، وتركيا، وبحجم أقل في أوربا، عدا عن بشمركة روج افا، التي تتطلع إلى حصولها على بطاقة العبور إلى ميدانيها في المدن الكوردية، حصراً، ورفضها القتال في المدن العربية، تقديراً لخصوصية كل مكان، وتنفيذاً لأولوية المجال العسكري لها، يُشكل ضلعاً في هذه جبهة السلام والحرية. إضافة لتيار الغد، والمجلس العربي للجزيرة والفرات وهذا الأخير تشكل في مصر عام2017، بعد الملتقى التشاوري الأول للقبائل والقوى السياسية العربية السورية في المنطقة الشرقية “دير الزور، والرقة، والحسكة”. والذي ينشط ضمن نطاق تواجد العشائر العربية في الحسكة والرقة ودير الزور، وبما يملكه من خزان بشري متفاوت الحجم تبعاً للظروف التي مرت بها المنطقة، وانشطار المكون العربي بين قسد، وتركيا، وروسيا، وتوجهات الحكومة السورية، وتيار الغد. وبما يمكن أن يمثله من تشكيل عسكري جديد يضاف إلى قوات النخبة المتواجدة. إضافة إلى تشكيل المنظمة الأثورية الديمقراطية ضلعاً أخر، وهي التي تشكل عصب وعمق التمثيل السياسي والشعبي للشارع الأشوري السرياني في محافظة الحسكة، منطلقين من نسق تاريخي لتأسيسهم، والذي يعود إلى 1957. ووفقاً لهذه التركيبة السياسية والاثنية للجبهة، فإن الضلع الرابع للمكونات القومية يبقى ناقصاً، وهو ما قد يتوج بضم جسد سياسي تركماني إلى الجبهة؛ ليصبح بمثابة تمثيل سياسي يحتوي كافة القوميات والأديان، في عموم شمال شرق سوريا والمنطقة الكوردية، وبذلك تصبح كتلة بشرية جغرافية متماسكة.
أما رابعتها: فإن زحمة و”عجقة” الأجساد السياسية في هذه الرقعة الجغرافية، رُبما يصب في نهاية الأمر إلى اندماجات سياسية للأحزاب والكتل الحزبية الصغيرة حماية لها من الاندثار،
ومع عدم إغفال البيان التأسيسي للجبهة التأكيد على أن التحالف الجديد لا يؤثر سلباً على استمرارية عضوية الأطراف المشكلة لها في الأجسام والمؤسسات السياسية السورية المعارضة. فأن ضعف الأداء المستدام لعمل اللجنة الدستورية، ودخولها في نفق مظلم لا يكاد يُرى له بداية النور، بسبب الاستعصاء السياسي، وعدم الدخول في مواضيع هادفة وجادة كالمبادئ الدستورية أو مافوق الدستورية. فإن هذه الجبهة التي لم تتعرض لاعتراضات إقليمية أو دولية، رُبما يُكبت لها أن تتصدر مسارً سياسياً جديداً لسوريا.
وضمن أقطاب الصراع السياسي فإن “مسد” تسعى وفي حركة سريعة وديناميكية بغية كسب صراع التمثيل السياسي للمنطقة، إلى إعادة طرح نفسها عبر سلسلة ندوات ومؤتمرات ولجان مختلفة، لتكون المعبر عن مكونات المنطقة. وما بنود البيان الختامي الذي أشار إلى أهمية القرارات الدولية والحل السياسي لسوريا بالتشاور مع المكونات الفاعلة والرئيسية، وبشكل خاص ضمن مناطق شمال شرق سوريا، إلا سعياً نحو ذلك. كما ترغب في كسب كامل نقاط جولات الحوار بين المجلس الكوردي وقسد من جهة، وأحزاب الوحدة الوطنية الكوردية من جهة ثانية؛ لسحب ورقة التمثيل الكوردي من بين يدي المجلس الكوردي، وجعله ضعيفاً سياسياً ضمن جبهة السلام والحرية. ووفقاً التسريبات الإعلامية ثمة تجهيزات نهائية للإعلان عن جسد سياسي جديد مؤلف من مسد وهيئة التنسيق وجزء من منصة القاهرة ومنصة موسكو وبعض الشخصيات المستقيلة من الائتلاف السوري المعارض، لتشكيل منصة أخرى ستكون منافسة لمنصة جبهة السلام والحرية، هذا الصراع اللين سيكون له تداعيات عميقة على الساحة السورية وشمال شرق سوريا خاصة، لجهة أن الجسد السياسي المزمع الإعلان عنه، سيكون لقسد الدور المحوري في تمثيله العسكري، في حين أن الأجنحة العسكرية لجبهة السلام والحرية لم تتمكن من انتزاع بطاقة العبور والاستقرار بعد، في حين أن القبول السياسي للجبهة رُبما يكون أعمق وأكبر من جسد مسد وباقي الأطراف.
وضمن صراع القوى السياسية المتسابقة للظفر بتمثيل منطقة شمال شرق سوريا، ومع أن أيّ تشكيل سياسي جديد، لن تغير من حركة واقع الصراع في سوريا، ولن تتمكن من الخروج عن نطاق الترتيبات التي تسعى إليها روسيا وأمريكا ضمن نطاق مخططاتها في الشرق الأوسط، لكن الحقيقة أيضاً التي لا يمكن إلغائها أو التقليل من شأنها، أن الجبهة جهد سياسي جمعي لمكونات سوريا في شمال شرق البلاد، وهو شيء شبيه بالهويّة الجامعة، بما يحتويه من قوميات وأثنيات ضمن جسدها. ورُبما نجد هذه الجبهة، نواة تشكيل جسد سياسي معارض جديد، بعد أن ابتعدت عدد كبير من الدول عن الائتلاف، وانفضت عنه أجساد سياسية مؤسسة له. هذا أن لم يشكل عصب تغيير وإعادة هيكلة الإدارة الذاتية من أصلها، ومع الجسد السياسي الجديد الذي يستعد للإعلان عن نفسه، فإن أربع معطيات متداخلة تتوضح من خلال هذه التشكيلات السياسية الجديدة:
أولها: أن جبهة السلام والحرية، حالياً، تتمتع بثقل سياسي جيد وقبول مبدئي من تركيا، روسيا، أمريكا، وهو ما يعني إمكانية إدراجها كمنصة مستقلة ضمن أي جسد سياسي معارض جديد مزمع إنشائه على أنقاض الائتلاف.
ثانيتها: أن تواجد منصة موسكو مع جزء من القاهرة وهيئة التنسيق سيعني حتماً تضاربً بالمصالح والأهداف والتوجهات مع الائتلاف السوري الحالي، ومع جبهة السلام والحرية برؤاها السياسية المُعلن عنها. وبالرغم من تواجد كل هذه الأطراف، ماعدا مسد، ضمن هيئة التفاوض واللجنة الدستورية، إلا أن القواسم المشتركة أقل بكثير من المثبطات والمسببات للحوار أو تكملته، وما حصل مؤخراً من خلافات على نسبة تمثيل المستقلين ضمن هيئة التفاوض إلا خير دليل.
ثالثتها: حتى وإن كانت للإدارة الأمريكية الجديدة مأخذ وحساسيات من السياسات التركية الحالية، إلا أن العمق الاستراتيجي الذي تشكله تركيا كدولة وشعب وموقع جيوبليتيكي بالنسبة للمصالح والعمق الأمني الاستراتيجي الأمريكي، رُبما لن تدفع بالإدارة الأمريكية إلى تفضيل ورقة مسد والجسم السياسي الذي تسعى إليه، على مصالحها مع تركيا، التي تشير بعض الإحصائيات إلى أن التبادل التجاري بين أنقرة وواشنطن سيصل إلى /100/مليار دولار سنوياً، في نهاية 2021.
أما رابعتها: فإن زحمة و”عجقة” الأجساد السياسية في هذه الرقعة الجغرافية، رُبما يصب في نهاية الأمر إلى اندماجات سياسية للأحزاب والكتل الحزبية الصغيرة حماية لها من الاندثار، وتشهد المنطقة انتخابات أحادية الجانب، لن تشارك فيه كتل سياسية مهمة ورئيسية، أو الدخول في حوارات مستدامة تفضي في نهاية المطاف، إلى تشكيل جسم سياسي جديد قوامه أطراف جبهة السلام والحرية ومسد وشخصيات مستقلة من الوجهاء والعشائر المحلية. وهذه تحديداً تخضع للشروط والاعتبارات التي رسمتها الإدارة الأمريكية الجديدة أمام قسد ومسد، حول علاقتها مع دمشق، وإنجاح الحوار الكوردي –الكوردي، والموقف من تركيا والمعارضة السورية.
تقودنا الوقائع والوضع الحالي لسوريا، للقول لا انتصار سياسي لأيَّ طرفاً حتى اللحظة، فالبلاد ممزقة، ونقاط القوة متشعبة وشبه مثبتة وتقترب مناطق الاستقرار والسيطرة على دخول عامها الكامل، وتشهد المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية تأرجحاً على مستوى توفير الخدمات، تكرار مظاهر الاعتراض والاضطرابات، تكرار التهديدات التركيا على عين عيسى، والتوترات المتلاحقة بين قسد وقوات الحكومة السورية، والتلويح الأمريكي بشروطه، قد يُضعف أو يقلل من الحظوظ السياسية لمسد وقسد. بالمقابل فإن خطوات جبهة السلام والحرية رُبما تحمل نتائج مستدامة قريباً، متمثلة باللقاءات المكوكية لوفد الجبهة مع روسيا، وممثلين عن الإدارة الأمريكية، ووزارة الخارجية التركية، والمعارضة السورية، وإقليم كوردستان، وعدم اعتراض أي طرف منهم على إعلان وبيان وعمل الجبهة، يمنحها خطوة استباقية في حلبة الصراع القائم. وبالمعنى السياسي لتلك اللقاءات يُمكن القول أن الجهد السياسي الذي يبذله ممثلي الجبهة لا يُمكن أن يُقفز فوقه أو يُبعد من الحسابات السياسية المستقبلية.