الرعب الذي كان يعيشه المجتمع السوري، العربي قبل الكوردي، في ظل نظام البعث والأسدين بلغت حد القطيعة مع: التفكير السليم، والصراحة في إبداء رأي سياسي حتى ضمن العائلة الواحدة، إلى درجة أصبح الناس يوصفون المعارضين بالجنون، لأنهم كانوا يرسلون ذاتهم إلى شبه موت حتمي.
رغم هذا الواقع المأساوي، بدأت تظهر طفرات بين الشعب الكوردي في سوريا، تندد بالأنظمة الشمولية، وبشكل غير مباشر بنظام الأسد، على خلفية الجرأة التي ظهرت من خلال التدخلات المباشرة للدول الكبرى (خاصة بعد عام 2003م) في سياسة أنظمة منطقتنا الدكتاتورية، وما أصبح يروج حينها عن مصير صدام حسين، والتي لحقتها التغيرات الجيوسياسية في العراق، وتشكيل إقليم كوردستان الفيدرالي.
وهو ما أدى بسلطة بشار الأسد والبعث إلى تشحين المكون العربي في منطقة الجزيرة، وتحريضهم على مهاجمة الشعب الكوردي، ومن ثم توظيف مجموعات لهذه المهمة، جلهم من أبناء المنطقة الكوردية، الجزيرة حصراً، وبدأوا التشهير بالشخصيتين الكردستانيتين اللذين أصبحا رئيسين على العراق بالتتالي، السيد مسعود برزاني وجلال طلباني، إلى جانب التمجيد بصدام حسين وجرائمه، وكانت ترفع كشعارات وبصوت عال ضمن التجمعات الكوردية بشكل خاص.
مع ذلك لم تأتى خططهم تلك بأية ثمار، ظلت معنويات الشعب الكوردي تتزايد، والعربي تنهار؛ وبشكل خاص معنويات القوى الأمنية وإدارات الدولة في الجزيرة، وإلى حد ما النظام في دمشق بحد ذاته، وعليه بحثوا عن مخرج، فكانت جريمة ملعب مدينة قامشلو، والتي خططت لها المؤسسات الأمنية، ودوائر النظام وبموافقة؛ وربما بأوامر من بشار الأسد ذاته، وتبين ذلك من خلال التحضير المسبق لنوعية مشجعي فريق كرة القدم القادم من دير الزور، والجاهزية الإجرامية لعناصر الأمن والشرطة، إلى درجة حصولهم على أوامر باستخدام السلاح الحي ضد جمهور فريق الجهاد وجلهم من الشباب الكورد.
يوميات الانتفاضة-الثورة والأحداث المريرة كتب عنها الكثيرون، كتاب معروفون على الساحة، بينهم المشاركون في المسيرات، مع ذلك يتطلب من الجميع أعادة أحياء الملفات والتذكير بها، والتعمق في تفاصيلها، وخلفياتها، ليس فقط: لأحياء وتخليد ذكرى الشهداء والجرحى الذين فتحوا دربا جديدا في النضال ضمن سوريا، لم تتوقعه السلطة، أو مواساة عائلاتهم أو الذين اعتقلوا وسجنوا أو دمرت ممتلكاتهم، ولا مواساة الأهالي الذين تأذوا، بل لتذكير العالم بما أقدم عليه النظام المجرم، والذي لم يكن يتوقع أنها ستكون بداية الكارثة التي حلت به.
ولنبين للمجتمع السوري حصرا، أننا اليوم عندما نطالب بنظام فيدرالي لكوردستان ضمن سوريا لا مركزية، نبنيها على خلفيات الكوارث السابقة، والتراكمات الثقافية التي لا تزال رواسبها تهيمن على سلطة دمشق، والمعارضة العربية، والذين لن يتوانوا من استخدام نفس المنهجية التي أدت إلى خلق صراع قومي بين الكورد والعرب حينها، ولئلا تتكرر المآسي. فما يظهر بشكل يومي في إعلام الأنظمة المحتلة لكوردستان، والتصريحات التي يصدرونها حول القضية الكوردية في سوريا المستقبل تؤكد ما نحن بصدده، والنظام الفيدرالي هو لإنقاذ المجتمع العربي قبل الكوردي، مثلما كانت ثورة 12 آذار يقظة لهم قبل أن تكون يقظة للشعب الكوردي، ولكن للأسف أغلبيتهم لا ينتبهون لها حتى اللحظة.
ولا يقرون أن الشعب الكوردي هو الذي هدم جدار الرعب المهيمن على المجتمع السوري، والذي كان ينعم به الحاشية العليا، أي عمليا، الكورد أنقذوا الشعوب السورية وفي مقدمتهم المكون العربي من السجن الرهيب الذي كان يسمى بسوريا الأسد.
تلقفت حينها وسائل الإعلام العالمية، المسيرات التي عمت كل العالم المتواجد فيه الكورد، رغم ما كان يروجه النظام السوري، والمحتلة لكوردستان، على إنها أحداث بين جماهير فريقين لكرة القدم، ساهم في هذا التحريف، تركيا وإيران، والتي كانت حينها على صلة متينة بنظام الأسد، حتى أن الأقنية المحلية بدأت تبث بعض الأخبار، كأقنية مدينة هيوستن-تكساس، على هذا المنطق، اتصلوا معي عدة مرات ليس للنشر، بل فيما إذا كانت لدي معلومات من مراكز الحدث، وعن خلفيات المسيرات التي عمت أرجاء العالم، وعدد القتلى، وكانت حينها بدايات انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والتي لعبت دورا حيويا في إيصال المعلومات، وهو ما ساهم في تعرية النظام رغم تحريفاتهم، لكنها لم تكن كافية.
لذلك، فالانتفاضة-الثورة لم تأخذ مكانتها العالمية حينها، كما وأن إعلام الأنظمة كانت أقوى من الكوردية، لكن العديد من المحللين فيما بعد انتبهوا إلى أنها لم تكن مجرد قتال ضمن ملعب، وقد كتبوا عما أتبعها من الجرائم، والاعتقالات بحق الكورد، وتدمير الممتلكات، والحصار الاقتصادي على المنطقة الكوردية، في كبريات الجرائد العالمية، وتحدثت عنها كبريات الأقنية الدولية، ووقفوا على أسباب الهجرات الجماعية للعائلات الكوردية بعدها بأقل من شهور قليلة، والتي أدت إلى ظهور شبه مخيمات على أطراف المدن السورية الكبرى، وهو ما حدا بالمراقبين السياسيين على دراسة خلفيات تلك التجمعات وسرعة ظهورها.
لا يدرك البعض، أن ما فعلته انتفاضة 12 آذار، للمنطقة، والتي على أسسها ندرجها كثورة، تجاوزت كثيرا ما حصل بعد قصة بو عزيزي صاحب شرارة الربيع العربي، ولكن لم تنتبه البشرية، ولا المحللين السياسيين على أنها هدمت جدران سجون الرعب، وهي من نقلت امتعاض الشعب الضمني إلى المسيرات، ومن المسيرات إلى ثورة شعبية، أمدهم جرأة مواجهة القوات التي كانت حتى قبلها بأسابيع ترعب المجتمع والشارع السوري، ويوم تم إسقاط صنم حافظ الأسد في وسط قامشلو؛ هدموا معه جبروته، وما بناه على مدى أربعون عاما من الترهيب، ومعه تكسرت هيبة طغاة الدول العربية.
كثيرة هي ثورات الكورد، وانتفاضاتهم، وللأسف جلها تدخل التاريخ، وتغلق عليها، وتدرس أحيانا كأحداث من الماضي، دون أن يتعمق الباحثون فيها، أو أن يستفيد منها السياسيون الكورد، ذكراتنا قصيرة، نثور بقوة ونخمد بمثلها، وجل ما نعمل عليه هو أننا نعيد الذكرى، مثلما نفعلها اليوم مع 12 آذار 2004م وتخليدنا لشهدائنا ومواساة جرحانا وعائلاتهم، وحتى عندما ندرسها ندرجها كتحليل للتاريخ، لا قدرة لنا على أخذ العبر منها، أو تطبيقها على واقعنا.
وما يتوجب علينا فعله لئلا يتكرر المأساة، ونسقط في المستنقع ذاته مرات ومرات، وألا نعيد الخطأ ذاته حتى وبأوجه مختلفة، علينا أن نقبل بعضنا، ونتحاور على بنية واعية، ونتناقش على ما يوصلنا إلى البعض لا على ما يفرقنا، حتى ولو كنا نكره بعضنا؛ سياسيا أو ثقافيا، لأن القضية القومية أعلى من خلافاتنا، وبتصعيدها نهدمها؛ لا نبنيها، فنظرة بسيطة إلى ما يكمن فيه مجتمعنا الكوردي وحراكه وأحزابه من الشرخ والتشتت، وتخوين البعض، تبين حجم المأساة الذي نعيشه. فما أعظم قدراتنا على تقديم الحجج للتأكيد على صدق رؤيتنا، ومن الغرابة أننا جميعا نقول إنه علينا ألا نكرر الماضي وأخطاءه.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
11/3/2021م
الحوار المتمدن
أقرأ أيضاً: