روماف – رأي
جان كورد – 3 /1/2022
قال نابليون بونابرت:
“- أنا أخاف صرير الأقلام أكثر من دويّ المدافع.”
وكانت المدافع أقوى أسلحة عهده في التاريخ، ولم يكن خوفه ذاك سوى من النقد الذي كانت توجهه الأقلام إليه، حيث كانت الأقلام أخطر أدوات الإعلام في عهد الثورة الفرنسية (14 حزيران 1789- 9 تشرين الثاني 1799)…
الإعلام ترجمة عربية للفظة “ميديا-Media” التي هي حالة جمع ل”ميديوم -Medium ” التي تضم مختلف أنواع وأشكال نقل المعلومات عبر التلفزيون، الراديو، وسائط التواصل الاجتماعي، الدعاية بصورها المتعددة، إضافةً إلى ما يتعلّق بمراقبة ““Media Controll وتنزيل المواد الإعلامية “Streaming”، والنصوص المتعلّقة بما في الإعلام والصور والغرافيك والتلفزيون والصور المتحركة، وكل ما من شأنه التأثير عبر الأثير والتواصل الديجيتالي في عامة المواطنين، وقد صار الإعلام السلطة الرابعة بعد السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية في المجتمعات الديموقراطية، كما صار للإعلام جوائز شهيرة في العديد من البلدان المتقدّمة، ومنها جائزة الإعلام الألماني منذ عام 1992م. وقد نالت شخصيات عالمية سياسية و فنية نصيبها منها، مثل الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، وكاهن البوذيين الأكبر الدلاي لاما، والممثل السينمائي المعروف جورج كلوني، ورائد النضال الإنساني العالمي نيلسون مانديلا والرئيسان الأمريكيان بيل كلينتون وباراك أوباما…
سواءً في الحروب أو في عهود السلام فقد أولى الملوك والرؤساء في شتى أنحاء العالم إهتماماً كبيراً بالإعلام الذي استخدموه كسلاحٍ فعّال في تعزيز نفوذهم السياسي، من قبل أن تستخدمه الشركات في تسويق منتجاتها من خلال الدعاية التي اعتمدت على إعلاميين مختصين وعالمين بشؤون المهنة، وظهرت وكالات أنباء إعلامية ضخمة ذات صحفٍ شهيرة وكبيرة من قبل أن تظهر وسائل الإعلام الديجيتالية الحديثة في العالم، ومنها وكالة شينخوا الصينية ونوفوستي وبرافدا السوفيتية وإذاعة لندن ذات الخبرات العظيمة في مجال نقل الخبر وتحليله وتسخيره من أجل الحفاظ على النظام الملكي البريطاني ومصالحه في شتى أنحاء العالم، والكثير من الصحف مثل واشنطن بوست والتايم ودير شبيغل ومن ثم المحطات التلفزيونية العملاقة،الأمريكية والأوربية، مثل سي إن إن وفوكس ونيويورك تايمز، التي تسيطر سيطرةً شبه تامة على عقول المتلقين من المواطنين، ليس في بلدانهم فحسب وإنما في العالم كله، ويتذكّر الكبار في السن تلك المحطة المصرية الشهيرة باسم (صوت العرب) التي كانت تملأ صدور العرب في كل مكان بآمال الوحدة والانتصار على اسرائيل، وكانت اسرائيل في الوقت ذاته ترصد أخطاء تلك الإذاعة لتنقل للعالم العربي والرأي العام العالمي صورةً معاكسة كلياً للمعلومات التي تصدر من صوت العرب. وكان طبيعياً جداّ ولا زال مهماً للغاية أن تصرف الحكومات الثروات الطائلة على إعلامها التابع لها أو الذي يؤيد سياساتها، وكذلك الأحزاب، سواء تلك التي كانت تمتلك القرار السياسي لوحدها، كما في الدول الشيوعية سابقاً أو التي كانت متآلفة مع غيرها في إدارة بلادها، استخدمت ولا زالت تستخدم الإعلام الذي تطوّر وصارت له معاهد ضخمة تقوم بتخريج الملايين من الكوادر المدرّبة في شتى الأنحاء لتقديم إعلامٍ ناضج ومؤثر وناجح للمجتمعات البشرية، حيث أن سلاح الإعلام لا ينافس القوات المسلّحة للدول فحسب، وإنما يعتبر أخطر الأسلحة تلك التي يمتلكها الإعلام، ولذا فإن مقولة نابليون بونابرت التي ذكرناها في البداية صحيحة حتى اليوم، ولربما في المستقبل البعيد.
أما في كوردستاننا المسكينة حقاً، حيث الأعداء محيطون ومحدّقون بها من الجهات الأربع، فلم يكن من السهل بناء وتعزيز الجهاز الإعلامي للأحزاب والسلطات الكوردستانية التي كانت تقاتل من أجل استمرار الوجود على قيد الحياة، كان سلاحها الأهم “بندقية البورنو” في مواجهة العدوان الكبير المدجج بالطائرات والغازات السامة والمدافع الضخمة وإعلام متضافر الجهود بين الدول التي كانت تعمل على خنق كل ما يتعلّق بصوت الحرية في كوردستان، مهما كان صوتاً ضعيفاً وغير مؤثّر، و لعبت مجلة (هاوار – Hawar) في الثلاثينيات دوراً هاماً في توسيع وتعميق الوعي الكوردي عامةً والوعي بضرورة امتلاك إعلامٍ فعّال، ثم لعبت جريدة (روزا نو – ( Roja Nû دوراً كبيراً في تعزيز أهمية إيجاد صحافة كوردستانية منذ حقبة الحرب العالمية الثانية.
اكتشف الكورد ضعفهم في مجال الإعلام فانطلقوا لتأسيس الجرائد ومحطات الراديو التي كانت تتعرّض للتشويه المستمر على ما كانت تبثه من برامج، إلاّ أن فرحة الشعب الكوردي بانطلاقة راديو “صوت كوردستان” كانت عظيمة، وأتذكّر أننا كنا نصعد ونحن صغار إلى سطوح المنازل في قريتنا بأقصى غرب كوردستان لنتمكن من سماع أخبار ثورة أيلول العظيمة بصعوبةٍ بالغة… ومن إنجازات الإعلام الكوردستاني الكبيرة، صدور جريدة “التآخي” التابعة للحزب الديموقراطي الكوردستاني، فساهمت مع محطة الراديو تلك مساهمةً قوية في نشر الحقيقة عن الكورد وكوردستان، ومن قبل كان ثمة محطة راديو تبث برنامجاً بالكوردية من القاهرة، كما ساهمت جريدة (ريا تازه – Rêya Teze) الكوردية التي كانت تصدر في الاتحاد السوفييتي في نشر الوعي الإعلامي لدى الكورد، ولكن ظل إعلامنا في كوردستان وخارجها يصطدم بشبكةٍ متينة من الحدود السياسية المانعة لاجتياز الكتب والمجلات الكوردية، وبمشكلة الكتابة الكوردية بثلاثة أنواعٍ من الحروف (العربية، اللاتينية والكليرية)، وهذا لا زال حاجزاً لم تستطع القيادات الثقافية في كوردستان اجتيازه، في حين تمكّن مصطفى كمال اجتيازه بقرارٍ فردي منه، فتحوّل الأتراك من الحروف العربية إلى اللاتينية في الحال، وكذلك استطاع اليهود إحياء حروفهم القديمة بجرّة قلم كما يقال.
اليوم، يمتلك الكورد العشرات من محطات التلفزيون والراديو والكثير من الصحف، ولكن المشكلة تكمن في أن الإعلام الكوردي لا زال حتى اليوم خاضعاً للأحزاب، إذ ليس هناك شركة مدنية مستقلّة تمتلك وسيلة إعلام حقيقية وقادرة على فرض نفسها على القوى السياسية، يمارس فيها الإعلاميون – وهم كثر – نقدهم للأداء الحكومي والسلطوي للأحزاب التي ربما تعتقد أنها فوق النقد، فالذي يدفع للإعلام حتى اليوم هو الحزب السياسي بإيجابياته وسلبياته، بل ثمة صحف باهتة تصدرها الأحزاب لا ترقى إلى مستوى الإعلام الوطني المؤّثر الناجح، وهذا في الأجزاء غير المحررة من كوردستان على الأغلب… في حين يتصاعد وينمو حجم الإعلام الديجيتالي عبر وسائل التواصل الاجتماعي خارج الوطن كما نرى، وينشط فيه إعلاميون قديرون، إلاّ أنهم حريصون في معظمهم على عدم الاصطدام بالسلطات الحاكمة في كوردستان وخاصة في غربها، أو تلك التي في أيدي الأحزاب الطامحة في الحكم، وهذا كله يعني أن كوردستان لا زالت بحاجةٍ ماسة إلى إعلام حرّ مستقل أو “حرّ إلى حدٍ مناسب!” لممارسة دوره الناقد للقوى السياسية ولنقل الحقائق والوقائع من الوطن الكوردي وعنه إلى سائر أنحاء العالم.
لقد نشأت محاولاتٌ صادقة وجريئة لبناء صحف أو محطات راديو وتلفزيون كوردية حرّة ومستقلة إلاّ أن معظمها قد فشل بسبب أمرين:
-قلة الموارد المالية التي تحتاج إليها المؤسسات الإعلامية لاستمرارها في عملها
-التدخّل في شؤونها من قبل الأحزاب السياسية.
إن مصيبتنا تكمن في الطوابق العليا المسؤولة في الأحزاب السياسية ودوائرها الثقافية – الإعلامية التي لها قوائم “قبول واستحسان” وأخرى “منع ورفض” لمواد إعلامية معينة وكذلك لإعلاميين معينين، وهذا واضح وضوح الشمس، فكم من إعلاميين ترفض بعض المحطات وحتى الجرائد الحزبية نشر موادهم وما يكتبون بجدٍ واهتمام، التي ربما تعتبرها جهات إعلامية أخرى منافسة “ممتازة” وكم من “إعلاميين” ليست لهم أدنى معرفة بمهنة الإعلام يتنعمون برضا أحزابٍ معينة ولهم مناصب رفيعة في محطاتٍ تلفزيونية ومواقع الكترونية شهيرة. ولكي يكون لدينا إعلامٌ مهني حرّ، يجب أن تفسح الأحزاب المجال أمام نشوء مؤسسات صحافية وتلفزيونية قوية تعتمد في تمويلها على دعم حكومي غير مشروط وعلى ما تكتسبه من نشر الدعايات التي هي المصدر الأهم لمعظم الصحف والمحطات والمواقع العملاقة في العالم.
وأقولها بصدق: إن الحكومة الألمانية تخاف من مجلة دير شبيغل – المرآة، والعالم – دي فيلت، وفرانكفورتى ألغمانيى، والزمن – دي تسايت أكثر من المعارضة السياسية للأحزاب المنافسة في البرلمان… وهي جرائد مستقلّة إلاّ أنها وطنية وتعرف أين تكمن مصالح الشعب الألماني العليا.