عز الدين ملا
من الملاحظ أننا نمضي في سنوات الأزمة السورية وقلوبنا تنبض حسرات على بصيص أمل يولج انفراجاً لمعاناة طال أمدها، ونحن في آذار، شهر النمو والاخضرار، ولكن ما زال هذا الربيع بعيد المنال. خلال هذا الشهر كانت الصرخة الأولى للثورة السورية، ثورة ضد الظلم والاستبداد، هذه الصرخة التي تحولت إلى صرخات وصرخات، السنوات تمضي وما تزال صرخات الألم والمعاناة تضج في أروقة الحناجر.
آذار الذي حمل عشق الحرية والكرامة في حناياه كان حضناً لحدَثين مهمين غَيَّرَا مجرى التاريخ السوري المعاصر، والبُعد الزمني بين الحدثين سبع سنوات، ولكن الفارق بينهما كبير مع تشابه بسيط، نستطيع في هذا المقال تسليط الضوء عليهما بشكل موجز وخطوط عريضة للاستفادة من دروس الحدثين وأخذ العبرة.
آذار الذي حمل عشق الحرية والكرامة في حناياه كان حضناً لحدَثين مهمين غَيَّرَا مجرى التاريخ السوري المعاصر
سوريا التي حكمت لأربعين عاماً من قبل نظامٍ دكتاتوري مستبد، حكم سوريا بقبضة من حديد، استخدم مختلف أساليب التضييق وكتم الأنفاس، جعل من شعار وحدة حرية اشتراكية بوابة كسب العاطفة والشعور القومي العربي إلى جانب نداء المقاومة والتصدي للإمبريالية والصهيونية لتوجيه أنظار الشعب نحو الخارج وإلهائه عن الفساد والاستبداد في الداخل الذي كان تربة خصبة لنمو العنصرية والأنانية ولخلق فتن بين مكونات الشعب السوري الواحد، على الرغم من الظلم والنقص الذي عانى منه المكوّن العربي قبل غيره من المكونات الأخرى من ممارسات النظام.
العودة إلى شرارة الحدثين، التشابه كان نقطة الانطلاق في شهر آذار، وغير ذلك فالاختلاف كبير وشاسع، انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004 كانت كوردية بامتياز، واجهوا غطرسة السلطة الحاكمة بصدور عارية، أما انتفاضة الخامس عشر من آذار 2011 كانت سوريّة عامةً، وهذه كانت نقطة الفصل في التمييز والعنصرية الذي غرسه النظام بين مكونات الشعب السوري الواحد.
الكورد وحضارتهم العريقة
الكورد شعب ذو تاريخ عريق، يعود بهم الزمن إلى إمبراطوريات وممالك حكمت المنطقة لمئات السنين، وكانت تلك الإمبراطوريات لها شأن كبير في تلك العصور، والحضارة الكوردية قدمت للإنسانية إنجازات كبيرة وكثيرة في كافة نواحي الحياة، ففي المجال الاجتماعي كان الكورد خير جيران للشعوب والأمم الأخرى، قدموا لهم يد العون، واعتبروا تلك الشعوب أخوة في العيش المشترك، وفي المجال الاقتصادي كان الكورد يعتبرون الأقوام الجارة شريكة لهم، يقدمون لهم ما يقدمونه لأنفسهم، وفي المجال العلمي كان للكورد بصمة عظيمة في الحضارة الإنسانية، فقد برعوا في مختلف العلوم من الطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلك، وخاصة في العصر الإسلامي، فالكورد من أكثر الشعوب التي حافظت على الدين الإسلامي، واستمراريته حتى الآن.
الكورد وسوريا الحديثة
الكورد في كوردستان سوريا، وكما هم في أجزاء كوردستان الأربعة، تجمعهم هذه الصفات، كانوا أوفياء للشعب السوري، قدموا الكثير من الإنجازات والتضحيات على المستوى الوطني، وكان لهم بصمة عظيمة في بناء سوريا الحديثة، هم من قارعوا الاستعمار إلى جانب العرب، وقد برز من الكورد شخصيات كانوا رؤوساء وعلماء وفنانين خلال السنوات السبعين الماضية، ورغم ذلك كان رد الجميل من قبل أخيه العربي، بالنظرة الدونية العنصرية الشوفينية، وخاصة في عهد النظام البعثي، حيث طُبق في حقه ممارسات وأساليب عنصرية رهيبة بدءاً من الإحصاء الجائر إلى الحزام العربي، وغير ذلك من الأساليب الظالمة، والأكثر من ذلك هو اعتبارهم للكوردي مواطناً من الدرجة الثانية.
الانتفاضة الكوردية 2004
ما حصل خلال الانتفاضة الكوردية في عام 2004، أظهر بشاعة وحقد النظام على الكورد، لِيُفرغ حقده وكرهه، لما تحقق من انفراجات وإنجازات كوردية في كوردستان العراق بعد إسقاط النظام الصدامي البعثي، على كورد سوريا، والذي حصل في مدينة قامشلو، مدينة الحب كما وصفها الراحل سعيد يوسف، فكانت الشعارات الحاقدة التي رُفِعت بأصوات حناجر العرب القادمين من مدينة دير الزور، والتي طالت رموز الكورد، لإهانة واستفزاز العاطفة الكوردية، ورغم ذلك اتسم الكورد بضبط النفس وعدم التعرض لهم، ولكن تلك الشعارات لم تُشفِ غليلهم، فقاموا برمي الحجارة التي حملوها سلفاً معهم بالتواطؤ مع قوات الأمن التابعة لنظام الأسد المجرم قبل دخولهم ملعب الجهاد، ولكن الكورد لم يتحملوا تلك الإهانة وعلى أرضهم، فأخرج الكورد نار الثأر لظلمهم الذي تحمَّلوه لسنوات طويلة.
واجه الكورد هذه الآلة الأمنية المجرمة بصدور عارية، وبقوة الغريزة الكوردية التي لا تقبل الذل والإهانة، فكسرت جميع القواعد الدكتاتورية من خوف وترهيب، وكانت بداية نهاية النظام البعثي الشوفيني في سوريا، حيث وضع هذا الحدث الكورد تحت الاختبار، فأثبت الكورد في كوردستان سوريا جدارتهم، وعشقهم للحرية والانعتاق، فكان الطوفان الكوردي الذي هزّ عرش النظام في عقر داره بدمشق، وجعله يعيد حساباته ألف مرة. الانتفاضة الكوردية كانت فوق كل الأفكار الأيديولوجية والحزبية، وحدت كلمة الكورد بأن التغيير ضرورة حتمية لبناء سوريا الحديثة، سوريا اتحادية تعددية لا مركزية، فكانت قوة لا يستهان بها، هذه الانتفاضة التي أعطت درساً لكل من يستهين بحقوق الكورد.
الانتفاضة السورية 2011
هذه الثورة التي انطلقت شرارتها من درعا، أقصى الجنوب الغربي السوري، كانت ضد الظلم والقهر والإذلال، هنا لم يقف الكورد مكتوفي الأيدي، بل وقفوا بحزم ومنذ الشرارة الأولى إلى جانب الثورة السورية، بعكس ما حصل في الانتفاضة الكوردية 2004، حيث واجه الكورد وحيدين الآلة العسكرية الضخمة للنظام ولم يتحرك أحد من باقي المكونات، بل ظهر من وقف إلى جانب السلطة ضد إخوتهم الكورد.
الفارق بين الحدثين
الانتفاضة الكوردية حققت هدفها رغم قصرها، بدأت سلمية وانتهت سلمية رغم استخدام النظام للعنف المفرط ضد الكورد. أولاً هزَّت عرش النظام الحاكم والنظرة القائمة بأنه يحكم البلد بقبضة من حديد.
ثانياً، أثبتت أحقية الحقوق الكوردية القومية والوطنية في سوريا، وكانت بداية النهاية لنظام مستبد جعل من سوريا حديقة للقلة القليلة.
الانتفاضة السورية، التي بدأت بثورة سلمية، ولكن مع مرور الزمن تحولت إلى عسكرة، ومعظم الثوار إلى مرتزقة وأدوات، ولم تحقق هدفها في الحرية والعدالة.
الدروس والعبر
بناء علي ذلك، يتطلب من جميع السوريين، كورداً وعرباً وسرياناً وآشوراً، ترك كل الأحقاد والعنصرية، والسير معاً للملمة الجراح وتوحيد الصفوف، والعمل على توحيد الرؤى والأهداف، وتحقيق شراكة حقيقية بين جميع الأطياف والمكونات المعارضة الوطنية السورية لضمان حقوق وواجبات الجميع في الدستور السوري الجديد، لِـنجمع الدروس والعبر من الحدثين، ونستفيد منهما لبناء سوريا المستقبل، سوريا لا مركزية.