روماف – سياسة
عناوين كثيرة تتصدّر منصّات الأخبار السورية المعارضة، منذ أيام؛ “هيئة تحرير الشام” تسيطر على عفرين، اشتباكات بين الفيلق الثالث في الجيش الوطني السوري و”هيئة تحرير الشّام”، عودة عسكرية لحركة أحرار الشّام الإسلاميّة، تقاسم مناطق نفوذ بين التنظيمات الجهاديّة في مدن وبلدات عفرين، سيناريوات وتوقّعات لتصاعد الأحداث… بين كل هذه الأخبار، يكاد لا أحد يتحدّث عن أهل المدينة، عن سكانها المهجّرين، والقلّة من أهلها الذين بقوا، ولم يحن موعد تهجيرهم بعد…
تجري العادة أن يكون الحدث الأبرز حين وقوع الصدامات العسكريّة بين الجماعات المسلّحة هو أحوال سكان المناطق التي تشهد المعارك. حوادث نزوح، وقصص مؤثّرة لمدنيين في المعارك، ومشاهد الهروب من مناطق الاشتباك الساخنة وغيرها من الأحداث. لكن هذا ما لم يحدث في عفرين، فأهل المدينة مهجرون من ديارهم، يعيشون في الخيم، بعدما تم الاستيلاء على منازلهم وأراضيهم، وبعض هذه المنازل نقاط عسكريّة أو سجون. وليست مصادفة إن رأى مهجر من خيمته منزله يهدم تحت قصف، فيما تقول الأخبار إن الاستهداف كان لمقر عسكري!
عام 2018، احتلّت تركيا وفصائل إسلاميّة سوريّة ضمن الجيش الوطني السوري، مدينة عفرين الكردية، شمال غربي سوريا. بدأت الساعات الأولى للاحتلال، بصور وفيديوات لعمليات نهب واسعة نفذها عناصر الفصائل، حتّى أُطلق على اليوم الأوّل لاحتلال المدينة “يوم الجراد”. لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فبعد النهب، بدأت عملية تطهير عرقي وتهجير جماعي لسكّان المدينة، وتدمير المزارات الدينيّة للأيزيديين، والاستيلاء على الأراضي الزراعية ومنازل السكان الكرد، وانتهاكات بينها حوادث اغتصاب نساء وأطفال داخل السجون وقتل على الهوية وثّقتها الأمم المتّحدة، إلى فرض الدين، وغيرها من الانتهاكات وصولاً إلى بناء مستوطنات في المدينة، وتوطين غير الكرد في المدينة الكرديّة.
يكاد لا أحد يتحدّث عن أهل المدينة، عن سكانها المهجّرين، والقلّة من أهلها الذين بقوا، ولم يحن موعد تهجيرهم بعد…
ثمّة مفارقات مركّبة لما يحدث اليوم في عفرين، فالكثير من الفصائل التي تقاتل هيئة تحرير الشّام اليوم، كانت جزء منها سابقاً، قادةً وأفراد، وبعضهم كان جزء من تنظيم الدّولة الإسلاميّة “داعش”. عام 2012، هاجمت فصائل من “جبهة النصرة” مدينة سري كانييه (رأس العين) التي تحتلها تركيا اليوم، ومن ضمن ما قامت به، هو عمليات نهب المحاصيل ومنازل المدنيين. عدد كبير من الأفراد الذين كانوا في هذه العملية، انتقلوا إلى تركيا لاحقاً، وبعضهم صار لاجئاً في أوروبا، لكن كثراً منهم عادوا ودخلوا مدينة عفرين بوصفهم جزءاً من فصائل الجيش الوطني، وهم يشتبكون على تقاسم النفوذ والغنائم مع أصحاب الأمس. بدا ذلك واضحاً من خلال الانقسامات الداخليّة التي حصلت بين الفصائل المتقاتلة، والانقسام الذي حدث داخل الجيش الوطني السوري نفسه، المقسّم، اليوم، إلى فريقين؛ فريق من الفصائل يقاتل إلى جانب “هيئة تحرير الشّام”، والآخر فصائل تتقاتل معها، لكنها تتفاوض وتتفق على احتمالات إدارة المنطقة أمنيّاً.
من جهة التضامن، تبدو الأحداث مكرّرة، فعام 2018، عند احتلال مدينة عفرين، ظهرت أصوات إعلاميّة وسياسيّة سوريّة رافضة لمظاهر السرقة والنهب التي شهدتها المدينة.
ويتكرر المشهد ذاته، فالتظاهرات التي خرجت، رفضت وجود “هيئة تحرير الشام”، لكن هذا الرفض رافقه دعم وجود الاحتلال، دون التطرّق إلى الحرب التي استهدفت سكّان المدينة الكردية، ودون أدنى أشكال الاعتراف بالإبادة والتغيير الديموغرافي والاستيطان والجرائم التي حدثت. في إحدى التظاهرات رفع المنشدون شعار: “يا جولاني اسمع اسمع. هزمناك بكفر جنة”. وكفر جنة هي قرية كردية سياحيّة في مدينة عفرين، وهي واحدة، كما كل القُرى الكردية التي تعرض أهلها لأبشع أنواع الانتهاكات على يد فصائل الجيش الوطني السّوري، لكن المتظاهرين رأوا تقدّم الجولاني، وغضّوا بصرهم عن الجانب الآخر من الحقيقة، ليس ذلك فقط، بل كانت تلك الشعارات داعمة للفصائل التي ارتكبت هذه الانتهاكات. فيما كان أبرز الأحداث، هو تصاعد الخطاب الذي يرى هجوم “هيئة تحرير الشام” على مدينة عفرين وفصائل الجيش الوطني السّوري هجوماً على قوى “الثّورة” ذاتها، والخطابات التي ترفض جهاراً أي ربط بين هذه الفصائل والثورة السورية!
تالياً، لم يتغيّر شيء. الاحتلال ذاته، باختلاف الأدوات. كان الجيش الوطني السوري مسيطراً على كامل مدينة عفرين، بإسناد من الجيش التركي. سيطرت “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) على أجزاء واسعة من المنطقة، مع بقاء الجيش التركي في مواقعه. عفرينيّاً، لم يتغيّر شيء. زادَ الطّين بلّة وحسب…