روماف – رأي
تعتمد تركيا في تسويق عملية تطبيعها مع النظام السوري على وجود عامل مشترك يجمعهما، وهو العداء للكيان الكردي، الإدارة الذاتية، وهو على خلاف مستوى أهميته للطرفين، يبقى ملفّاً محورياً، حيث تراه تركيا أولوية متقدّمة، معتبرة أنه يهدّد أمنها القومي، وتربطه بحزب العمّال الكردستاني المصنّف إرهابياً، بينما تراه حكومة الأسد مجرّد أداة أميركية ينتقص من سيادتها على مواقع استراتيجية ويحرمها مورداً مهماً لاقتصادها الوطني، إلا أنه، في الوقت ذاته، لا يشكل وحده عامل حسم يلزم نظام الأسد بالاستفادة من العرض التركي لبدء عملية تطبيع العلاقات السورية ــ التركية على أعلى المستويات.
خلال السنوات السابقة، تجاوزت حدود اللقاءات المشتركة بين الحكومتين الجانب الأمني، لتقف على حدود الاستثمار السياسي المنتظر من لقاء مرتقب الشهر المقبل بين وزيري خارجية تركيا والنظام السوري برعاية روسية، وضعت دمشق شروطاً تعجيزية لحصوله، حيث تتقدّم ملفات الانسحاب التركي من كامل الأراضي السورية، وملف المياه، ووقف الدعم السياسي والعسكري لفصائل المعارضة السورية، أولويات لفتح باب التطبيع مع حكومة الرئيس التركي أردوغان.
تقرأ دمشق دوافع أنقرة الحالية للمضيّ في عملية التطبيع معها، من خلال حاجة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) لكسب جولة انتخابية رئاسية ثالثة للرئيس أردوغان، رغم النفي التركي لأن تكون هذه الالتفاتة نحو تصفير المشكلات مع جوارها السوري تتداخل مع ملف الانتخابات المحلية. لكن الاتهامات لتركيا بأن خطوتها مجرّد مسكّن انتخابي يخفف من حدّة التجاوب الشعبي التركي مع ادعاءات المعارضة التركية، ويسحب منها ملفي التطبيع وإعادة اللاجئين السوريين، ووفق ذلك، تستفيد معارضة أردوغان من المحاولة التركية مع نظام الأسد بأنه اعترافٌ بتبديد إمكانات الدولة التركية 12 عاماً من سياسة الحزب الحاكم ضد سورية، ما يمكّنها من التشكيك في سياسة أردوغان المتأرجحة، وغير اليقينية من نتائجها، ما أدّى إلى تبديد مكتسبات تركيا الاقتصادية خلال العقد السابق من حكم “العدالة والتنمية”، وصعود اقتصادياته إلى أعلى مستوياتها، وهو ما يتيح اليوم أن يعتقد النظام السوري أن لديه الفرصة ليكون ورقة رابحة في بازار الانتخابات التركية وعامل ترجيح لكفّة الفائز بها.
استحقاقات التطبيع الذي تروّجه تركيا، وتحديداً ما يتعلق بإعادة مليون لاجئ سوري، تزيد من معاناة اقتصاد الأسد المتهالك، وتحمّله مسؤوليات أمنية جديدة
قد يفسّر تواصل المعارضة التركية ورسائلها مع نظام الأسد تبنّي دمشق اتباع خطوات مقابلة بطيئة لمبادرة الرئيس أردوغان في تطبيع علاقاته مع الأسد مباشرة، ليس فقط لتأكيد دعمها هذه المعارضة، أو بسبب انقلابات الموقف التركي في أكثر من ملفّ بين عداء وصداقة أو العكس، ولكن لأن استحقاقات التطبيع الذي تروّجه تركيا، وتحديداً ما يتعلق بإعادة مليون لاجئ سوري، تزيد من معاناة اقتصاد الأسد المتهالك، وتحمّله مسؤوليات أمنية جديدة. وكان قد أوضح سابقاً أنه يتعامل بتحرّكاته العسكرية والأمنية وفق أولويات سورية المتجانسة. ولذلك، يعرقل وجود مليون سوري من خلفيات معارضة لحكمه خطته في تدرّج توسيع مساحة سورية المتجانسة، وفق خطته التي يتّبعها جنوباً، ويريد تعميمها شمالاً.
استفاد النظام السوري من استعادة سيطرته على الجنوب، وفق اتفاقية 2018، من تسليم المعارضة سلاحها الثقيل والمتوسط مقابل وجود روسي ضامن، وبعدها تسلّل إلى منافذ الحكم المحلي، واستعاد هيمنته على الجنوب، ومارس عملية تصفيةٍ ممنهجةٍ لكل خصومه، سواء بالإبعاد أو التهجير أو الاغتيال، ولا تزال عملياته مستمرّة، فيما تريد تركيا إغراقه شمالاً بمليون لاجئ قابل للزيادة، يرهقونه على كل المستويات، ويصعب تدجينهم تحت عباءة الدولة الأمنية من جديد، ما يفسّر طلبات دمشق بتقديم ملفات أمن المياه وتحرير كامل الأراضي ومحاربة الإرهاب على عودة اللاجئين.
في ظل عدم إعلان الولايات المتحدة مباركتها خطوة التطبيع التركي – السوري، فإن النظام السوري يعتبر الصفقة خاسرة
وعلى أهمية ما يقدّمه مشروع التطبيع التركي ــ السوري من فرصة كسر الحصار الأميركي على سورية، إلا أنه في ظل عدم إعلان الولايات المتحدة مباركتها هذه الخطوة، وبالتالي عدم تضمين المساحات التي تحت الحماية الأميركية، وتحديداً الحقول النفطية، ضمن عملية استعادة النظام سيادته على مناطق “الإدارة الذاتية”، فإن النظام السوري يعتبر الصفقة خاسرة، وقد تُفقده ما يحصل عليه حالياً من النفط بأسعار زهيدة من “الإدارة الذاتية” والمليشيات المحلية عبر تجارة غير قانونية، لا يستفيد منها الشعب السوري، وتتغاضى عنها الإدارة الأميركية، وفق تصريح لمنصة “إنرجي فويس” من جون بيل، الرئيس التنفيذي لشركة غلف ساندز البريطانية التي تمتلك 50% من مربع 26 لإنتاج النفط في شمال سورية. وحسبه، بالإمكان تطبيق الزيادة على مستوى إنتاج الحقول في سورية كاملة، موضحاً أن الكمية يمكن أن تصل إلى 500 ألف برميل يومياً، وبالتالي تحقيق عائدات تراوح بين 15 و20 مليار دولار وفق أسعار النفط، التي يقترح فيها أن تذهب هذه العائدات إلى تمويل مشاريع التعافي المبكّر والتحفيز الإنساني والاقتصادي في جميع أنحاء البلاد، ولمصلحة جميع السوريين.
تحتاج سورية من تركيا الحصول على موافقة أميركية صريحة لعقد هذا التقارب لأسباب عديدة، منها أن الأخيرة تحصل على وثيقة رسمية بتخلي الولايات المتحدة عن “قسد”، ما يفتح المجال لها (حصل التقارب مع تركيا أو لم يحصل) لأن تفرض شروطها السابقة على “قسد” بالانضواء ضمن صفوف قوات الأسد صراحة، والإبقاء عليها ذراعاً تزعج من خلاله تركيا عند الحاجة. كذلك تفتح هذه الموافقة الأبواب على مصراعيها أمام الدول الراغبة في التطبيع مع النظام السوري، وبالتالي، تسلل المشاريع التي يمكن تغطيتها تحت عنوان التعافي المبكّر، ما ينقذ اقتصاد الأسد الذي يعيش سكرات الموت، في ظل استمرار العقوبات الأميركية بكفّ يد المتصالحين معه من تنفيذ أجندة استثماراتهم. فهل تفتح تركيا لنظام الأسد نافذة الخلاص، سواء قبل بها صديقة وشريكة له في الشمال السوري، أو أبقاها على قائمة أعدائه؟