القدس العربي
احتضنت بارزان الشهيرة برمزيتها لدى الكرد في كل مكان، بتاريخ 11 أيار (مايو) الجاري حفل افتتاح متحف ملا مصطفى بارزاني (1903-1979) الوطني الذي شارك فيه رؤساء الدولة العراقية وأركانها على مختلف المستويات وقيادات الأحزاب العراقية، ورئاسات إقليم كردستان وقيادات الأحزاب الكردستانية، وممثلو الدول العربية والأجنبية، بالإضافة إلى مجموعة من أصدقاء بارزاني ورفاقه ممن ما زالوا على قيد الحياة، وممثلون عن الأحزاب الكردية في مختلف أجزاء كردستان. وكان اللافت وجود عدد كبير من الأكاديميين المختصين والباحثين والمهتمين بالموضوع الكردي من خارج العراق وداخله، وعلى مستوى إقليم كردستان. كان حفلاً كبيرا بكل المقاييس يليق بتاريخ بارزاني الكبير الطويل، ودوره النضالي في سبيل حقوق أمته؛ وهو تاريخ يُضاف إلى تراث أسرته في ميدان الدفاع عن الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي على مدى أكثر من قرن.
قاد ملا مصطفى ميدانياً عدداً من الانتفاضات في كردستان العراق قبل الحرب الحرب العالمية الثانية، دفاعاً عن الحقوق الكردية المشروعة في مواجهة سياسات الحكومة العراقية التي كانت مدعومة من الانكليز. كما قاد الثورة الكردية ضد حكم عبدالكريم قاسم (11 أيلول/ سبتمبر 1961) التي استمرت إلى عام 1970؛ وهو العام الذي شهد اتفاقية السلام بين حكم البعث الذي كان يقوده رسمياً أحمد حسن البكر، في حين أن صدام حسين كان هو القائد الفعلي. لكن مرحلة السلام لم تستمر بكل أسف، وعاد القتال مجددا في ربيع عام 1974. وكانت اتفاقية الجزائر بين صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي بوساطة الرئيس الجزائري هواري بومدين، وبموافقة ضمنية أمريكية روسية. وكانت نتيجة تلك الاتفاقية إنهاء الثورة الكردية في ذلك الحين، وخروج بارزاني مع قواته من كردستان العراق، ليعود القتال مجددا لاحقاً بين الكرد الذين كانوا يطالبون بحقوقهم المشروعة، والحكومة العراقية التي كانت تريد التخلص من القضية الكردية بمجازر النابالم والكيماوي والأنفال والتدمير والتهجير والتعريب القسري والتغيير السكاني.
هذه الذكريات كانت تجول في الخاطر وأنا استمع إلى كلمات المسؤولين العراقيين الذين أشادوا ببارزاني ونضاله ومواقفه الوطنية. وكان معبراً ما تناوله الرئيس مسعود بارزاني في كلمته الافتتاحية الهامة حول رفض المرجعية الشيعية الكبيرة محسن الحكيم مطلب الحكومة البعثية عام 1965 الخاص بإصدار فتوى دينية، تبيح شرعاً للحكومة العراقية قتال الكرد.
لم يبدأ ملا مصطفى بارزاني من الصفر؛ وانما يعد امتداداً لتراث وتقاليد الأسرة البارزانية العريقة التي حظيت بمكانة مجتمعية وروحية ووطنية متميزة على مستوى منطقة بارزان، وعلى مستوى إقليم كردستان العراق والعراق، وعلى مستوى كردستان بصورة عامة. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى مسيرة عبد السلام بارزاني الثاني (؟-1914) الذي كان له دور مؤثر في ميدان العمل من أجل تأمين الحقوق الكردية ضمن الدولة العثمانية، وعُرف بشبكة علاقاته الواسعة مع الزعامات الكردية في مختلف أنحاء كردستان التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، والتي توزعت لاحقا بين تركيا والعراق وسوريا. كما كانت له علاقات مع زعماء الكرد في كردستان إيران؛ وتعرض نتيجة ذلك للملاحقة المستمرة من جانب السلطات العثمانية التي تمكنت في نهاية المطاف من القبض عليه واعدامه عام 1914، بهدف قتل الأمل لدى الكرد، والحد من فاعلية دور الأسرة البارزانية في ميدان الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الكردي؛ وهو الأمر الذي لم يحصل، إذ استمر الشيخ أحمد بارزاني (؟-1969) في الطريق ذاته، وتحمّل كل أنواع الاضطهاد في سبيل ذلك. وكان من اللافت أن الشيخ أحمد أخذ على عاتقه دور الإصلاح والتوحيد عبر تجاوز الخلافات في منطقة بارزان والمناطق المحيطة بها، كما قام بوظيفة التوجيه والتواصل مع الزعامات الكردية في مختلف أنحاء كردستان، لكنه أسند مهمة العمل الميداني القومي إلى شقيقه مصطفى بارزاني الذي تنقل بين مختلف مناطق كردستان، موفدا من قبل الشيخ أحمد.
وبعد أن تمكن شاه إيران من القضاء على جمهورية مهاباد الفتية، بتواطؤ واضح من الدول الغربية وروسيا، قاد بارزاني أكثر من خمسمئة من رفاقه في مسيرة بطولية غير مسبوقة، اشتبك خلالها بجيوش ثلاث دول هي: العراق وتركيا وإيران. ومع دخوله إلى الأراضي السوفييتية بعد أن عبر نهر آراس عام 1947 واجه صعوبات كثيرة من جانب المسؤولين الشيوعيين في كل من أذربيجان واوزبكستان وبدعم من وزير داخلية ستالين بيريا. واستمر مقام بارزاني هناك نحو 11 عاماً (1947-1958) واجه هو ورفاقه الكثير من الضغوط والتضييق في مرحلة ستالين؛ ولكن مع استلام خروشوف مقاليد السلطة أصبحت الأمور أفضل بعض الشيء بالنسبة إلى بارزاني ورفاقه، لا سيما من جهة التعامل الرسمي.
ومن الجدير بالذكر هنا هو أن هذه المرحلة، رغم أهميتها، لم تدرس بما هي الكفاية، وهذا فحواه ان مجال الدراسة ما زال واسعاً أمام الباحثين في الشأن الكردي من المهتمين بدور بارزاني في نشوء الفكر القومي الكردي المعاصر، والتحديات التي واجهها بارزاني على مختلف المستويات.
تناول مسعود بارزاني في كلمته الشاملة المشار إليها جملة من المسائل الخاصة بتاريخ البارزانيين ودروهم الديني والإصلاحي في منطقتهم، ونضالهم القومي على مستوى كردستان، خاصة في عهد كل من الشيخين عبدالسلام وأحمد.
فمن المواضيع المهمة التي ركز عليها الشيخ عبدالسلام، وهي تستوجب التمعن والتقدير، موضوع ضرورة المحافظة على العلاقات الودية مع مختلف المكونات المجتمعية الدينية والقومية. وهذا النهج ما زال معتمداً حتى اليوم في إقليم كردستان العراق بتوجيهات مباشرة من مسعود بارزاني نفسه الذي يطالب باستمرار بنبذ العنف والإرهاب، واحترام الآخر المختلف.
وكان اللافت في كلمة بارزاني دعوته إلى الحكم على البارزانيين من خلال تراث الشيخ عبدالسلام والشيخ أحمد وملا مصطفى لا من خلال تصرفات وسلوكيات الجيل الجديد، وهو الأمر الذي فُسّر بأنه إشارة واضحة إلى ضرورة وضع حد لمختلف السلبيات.
كما طالب في الوقت ذاته بحوار واسع بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية في إقليم كردستان العراق، على أن يسبقه تفاهم وتوافق بين كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ووعد بالإسهام الفاعل في عملية الدفع نحو التوافقات.
افتتاح متحف ملا مصطفى بارزاني الوطني هو اعتراف بالدور الريادي للراحل الكبير، وهو الدور الذي أهّله ليكون رمزاً لنضال الشعب الكردي من أجل حقوقه المشروعة، وزعيما من دون منازع للأمة الكردية التي وجدت فيه شخصا يسمو فوق الحسابات الحزبية والأيديولوجية المحدودة النطاق والأفق. ولعل هذا ما يفسر حرص بعض القوى التي لا تريد أي خير للشعب الكردي على مهاجمة هذه الزعامة، والتشكيك في أمرها وإلصاق التهم المفبركة بها.
فالشعوب عادة تبحث عن رموز لها، وما لم تجدها تصنعها لتتوحد حولها، وتلهم أجيالها الشابة والمقبلة. هذا بينما تعمل تلك القوى، ومنها أطراف كردية ملتزمة بمشاريع الآخرين، على تحطيم الرموز بهدف تكريس الإحباط، رغم أن مسيرة هذه الأطراف على مدى عقود كانت، وما زالت، تؤكد بأنها كانت وبالاً على الكرد في جميع الأماكن، خاصة في سوريا حيث تعرضوا للتهجير والاستغلال والقتل، كل ذلك خدمة لمشاريع لا تتقاطع مع مصلحة الكرد ومصلحة السوريين على وجه العموم.
وذكر لي الباحث اللبناني الأمريكي إدموند غريب على هامش مشاركتنا في افتتاح متحف بارزاني، أنه أثناء حوار أجراه مع المرحوم ملا مصطفى في أمريكا بعد اتفاقية الجزائر المشار إليها، كان يود تسجيل المقابلة والاحتفاظ بها لتكون مادة للبحث، إلا أن المرحوم ملا مصطفى لم يوافق على ذلك واكتفى بالمقابلة الكتابية؛ وكانت حجته في ذلك انه قد فشل في مساعدة شعبه لبلوغ حقوقه المشروعة. وأردف الدكتور غريب وهو يجيل النظر في ما حوله من إنجازات قائلاً: ولكن هذه النجاحات الكبيرة التي نجدها اليوم في إقليم كردستان العراق على صعيد بناء العمران والإنسان والمؤسسات، تؤكد ان جهود بارزاني لم تذهب سدى، بل أزهرت واينعت ليتمتع بها الجيل الكردي الجديد.
ولكن كل هذه الانجازات هي مهددة اليوم ومستهدفة من جانب القوى الإقليمية التي ترى في نجاحات التجربة الكردية هناك خطراً على سياساتها وتوجهاتها في ميدان سعيها لإلغاء «الخطر الكردي»، وفق فهمها وزعمها، عبر إلغاء الوجود الكردي هوية وثقافة ولغة، وحتى على الصعيد المجتمعي؛ وهذا ما يستوجب التوافق الكردي الكردي أولاً، والتفاهم والعمل المشترك مع الداخل الوطني العراقي ثانياً، ومد جسور التواصل والاستقرار الآمن والمصالح المشتركة مع الجوار الإقليمي، والمجتمع الدولي ثالثاً.
*كاتب وأكاديمي سوري