روماف – رأي
سبق لنا وفي مساهمات سابقة تطرقنا إلى ظاهرة الإسلام السياسي الراديكالي في منطقتنا بشكل عام وفي بلدنا سوريا بصورة خاصة، وكذلك أسباب هذه الظاهرة وجذورها ومخاطرها الكبيرة على مستقبل المنطقة وشعوبها. ومناسبة الكتابة في هذا الموضوع من جديد هو تمدد الجولاني إلى عفرين مؤخراً . نعلم أنه بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا في منتصف شهر آذار 2011 أطلق النظام السوري سراح عشرات المقاتلين المتطرفين من سجن صيدنايا بموجب عفو رئاسي. ومن ثم الدفع بـ هؤلاء المتطرفين المطلق سراحهم للانخراط في صفوف تنسيقيات الشباب والتغلغل في مفاصل الحراك الثوري السلمي، ونجح النظام من خلال هؤلاء المتطرفين في تسميم الحراك وحرفه عن مساره. وكان ذلك بالتعاون مع بعض أجنحة الأسلمة السياسية ومن خلال تحالف غير معلن ، وبدعم وتمويل بعض الجهات الاقليمية والدولية. وكانت النتيجة كما ذكرنا حرف الحراك الثوري السلمي وإدخاله إلى مستنقع العسكرة لتبرير استخدام العنف المفرط ضده . وتم تدعيم جبهة المتطرفين لاحقاً بإطلاق سراح مئات المتشددين من سجني أبو غريب والتاجي في العراق عبر مسرحية ، شارك فيها نوري المالكي وغيره من أدوات إيران . ولا ننسى الغطاء الشرعي الذي وفرته بعض أجنحة الأسلمة السياسية في سوريا لتسهيل عمل هؤلاء المتطرفين، واستغلال ذلك من جانب تلك القيادات الجهادية المتطرفة التي استفادت من البذور المتطرفة المدفونة في أعماق مجتمعات منطقتنا، وكذلك انسحاب النظام من بعض المناطق وتركها للفوضى، لتسهيل سيطرت المتطرفين عليها . حيث أصبحت سوريا ساحة مفتوحة أمام الجهاديين والمتطرفين المعولمين الوافدين من أفغانستان والعراق ومختلف أنحاء العالم ، فتحولت سوريا شيئاً فشيئاً إلى مايشبه مكب للنفايات البشرية . وسط هذه المناخات المساعدة ،وبعد أشهر فقط من انطلاق الاحتجاجات الشعبية ، توجه أبو محمد الجولاني (السجين السابق في سجن بوكا الذي كان تحت إشراف القوات الأمريكية )،ودخل سوريا مع فريق مكون من ستة أشخاص غالبيتهم من جنسيات غير سورية، وبتنسيق كامل مع أبو بكر البغدادي زعيم ما كانت تسمى بـ دولة العراق الإسلامية . حيث بدأ الجولاني بالتواصل مع المتطرفين المفرج عنهم من صيدنايا ، والتحضير لتأسيس فرع لتنظيم القاعدة في سوريا وبلاد الشام، حيث أعلن رسمياً عن ولادة جبهة النُصرة في 23 كانون الثاني 2012، وكان الهدف المعلن للمولود الجديد إسقاط النظام وإقامة إمارة إسلامية . وبعد نحو عام من تأسيس النصرة أعلن البغدادي وعبر تسجيل مصور عن دمج فرعي تنظيم القاعدة في كل من سوريا والعراق ليتحول اسم خلافته المزعومة إلى الدوالة الإسلامية في العراق والشام والمعروفة اختصاراً بـ ” داعش ” . ولم يمض يوم أو يومين على إعلان البغدادي حتى سارع الجولاني عن رفضه للبقاء تحت قيادة البغدادي وإعلان انفصاله عنه ، وتأكيد تابعيته لمركز تنظيم القاعدة الرئيسي ومبايعته لـ أيمن الظواهري . ونظراً لوجود تنظيم القاعدة على لائحة الإرهاب الأممية بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1267 لعام 1999 . قام الجولاني في الـ 29 من تموز 2016 بتغيير اسم جماعته من جبهة النصرة إلى جبهة ” فتح الشام ” مؤكداً بأنها لا تنتمي ولا تتبع أية جهة خارجية أملاً في الخروج من قائمة الإرهاب . ومن ثم قام الجولاني بتشكيل هيئة تحرير الشام بعد ضم عدة فصائل راديكالية – تشارك النصرة فكرياً وعقائدياً – إلى جبهة تحرير الشام في عام 2017 . وتبنت النصرة في وقت سابق العديد من الهجمات والعمليات الانتحارية المهمة ضد قوات النظام ، وتلقت المديح والثناء من غالبية قيادات (الجيش الحر) وبعض متصدري المشهد السياسي المعارض من المكون العربي السني ، ورفع البعض شعار ” كل من يحمل السلاح في وجه النظام هو ثائر “!. هذه الرؤية ساعدت الجماعات الإسلامية الراديكالية بالتغلغل في المفاصل الأساسية للحاضنة الثورية ، ثم بدأت بإلتهام الفصائل الثورية واحدة تلو أخرى ، وتلقت الدعم المادي واللوجستي من بعض الجهات الدولية والإقليمية وصولاً إلى إعلان إمارة مزعومة ، وبالرغم من إنقساماتها التنظيمية ( داعش والنصرة وفراخهما ) إلا إنها بقيت متوافقة من الناحية العنفية والفكرية والعقائدية. ولكن كل تلك المحاولات التي قام بها الجولاني من خلال تغيير اسم جماعته أكثر من مرة والإيحاء بأنه فصيل سوري معارض لم تعط أية نتيجة ، وبقيت جماعته على اللائحة السوداء، ومازالت جماعته تضم مقاتلين متطرفين من جنسيات غير سورية حتى تاريخ اليوم . واليوم تسيطر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) فعلياً على كامل محافظة ادلب ، ولها جهاز تنفيذي وإداري متكامل بإسم حكومة الانقاذ ، وتقدم الخدمات ، وتسيطر على المعابر ، ولها جيش منظم من المجاهدين المتطرفين ، وجهاز شرطة مدنية وعسكرية ، وكذلك هيئات تعليمية وصحية وفي مختلف المجالات في مناطق سيطرتها . وقامت مؤخراً بالامتداد والدخول إلى منطقة عفرين حيث سيطرت على كامل المنطقة دون قتال يذكر باستثناء بعض المناوشات، وتحالفت معها العديد من فصائل مايسمى بـ ” الجيش الوطني ” مثل الحمزات والعمشات وثائرون …إلخ . وقامت بطرد الجبهة الشامية أو الفيلق الثالث ( أحد تشكيلات مايسمى بالجيش الوطني ) من كامل منطقة عفرين، وحشدت على تخوم منطقة إعزاز إلا أن الاشتباكات توقفت، وانتشرت قوات من الجيش التركي في المساحات الفاصلة بين الجبهة والفيلق الثالث، وتظاهرت النصرة بأنها سحبت قواتها من عفرين وعادت إلى قواعدها السابقة قبل الحدث. لكن المراقبين وأهل المنطقة يؤكدون بأن هيئة تحرير الشام موجودة في كامل منطقة عفرين ، حيث تتمركز في نحو عشرين موقع داخل مدينة عفرين وحدها ، وأنها قامت بتغيير لباس مقاتليها كنوع من التمويه والتلون ليس إلا .
من الأهمية هنا الإشارة إلى أن الغاية من هذه المقدمة السريعة ليس فقط التعرف على الجولاني وكيفية تشكيل جماعته فحسب ، بل وضع القارئ الكريم في صورة محاولات التلون والانتقال من خندق إلى آخر، هذه المحاولات التي باتت جزءاً من سلوك هذه الجماعات المتشددة في هذه المرحلة. ومن جهة أخرى فإن ما حصل من تمدد لجماعة الجولاني مؤخراً وما قد يحصل لاحقاً من تحركات مكملة لايمكن فصلها عن مخرجات مسار أستانا – سوتشي للتسوية . لأن ماحصل ليس مجرد صراع فصائلي على النفوذ والسرقات والمعابر كما كان يجري دائماً في السابق بين تلك الفصائل. والنقطة الأخرى الملفتة في ماحصل خلال دخول النصرة إلى عفرين هو الانقسام والخلافات العميقة التي حصلت في صفوف تلك الفصائل التي كانت تدعي الانتماء للثورة ، وكذلك عملها تحت قيادة ماتسمى بالحكومة المؤقتة ووزارة دفاعها التي تتبع الائتلاف الوطني السوري المعارض !. حيث كان الشرخ كبيراً والانقسام واضحاً في صفوف تلك الفصائل. منها إنضمت لجبهة الجولاني وحاربت فصائل أخرى كانت معها بنفس الخندق، ومنها خذلت وأعلنت الحياد . وهذه اللوحة دليل على أن مايسمى بـ (الجيش الوطني ) غير منسجم في تركيبته، وغير موحد في ولائه وانتمائه، وغير متفق في أهدافه ، ولاينتمي أساساً لقيم الثورة التي كانت أهدافها واضحة تتلخص في التخلص من الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة ،وإقامة البديل الوطني الديمقراطي . وأكدت الأحداث الأخيرة بأن غالبية الفصائل المسلحة للمعارضة العربية لاتختلف في مرجعيتها الفكرية والعقائدية عن المرجعية الفكرية والعقائدية لجبهة الجولاني .
خلاصة الحديث
تمدد جبهة الجولاني وسيطرتها بكل سلاسة على عفرين كشفت عورات مايسمى بـ الجيش الوطني، وأكدت أن غالبية فصائل هذا الجيش غير منسجمة، وغير موحدة لا في أهدافها ولا في انتماءها. وأنها لاتختلف عن جبهة الجولاني فكرياً وعقائدياً. وأن مسار أستانا – سوتشي للتسوية مازال حاضراً وبقوة في المشهد السوري ، وأن مسار جنيف للحل السياسي مازال غائباً ومغيباً تماماً . وهنا يجد المرء نفسه في مواجهة جملة أسئلة منها : أليس دخول جبهة الجولاني بهذه السلاسة ،وماحصل من انقسام في صفوف فصائل مايسمى بالجيش الوطني المحسوب على الائتلاف والمشارك في مؤسساته، وانضمام بعضها إلى الجولاني ، يشكل سبباً كافياً كي يتم الإعلان عن رفع الغطاء السياسي – القانوني عن تلك الفصائل ، و” وفاة الائتلاف ” والبحث عن إطار معارض جديد ومختلف سياسياً وعسكرياً، وخاصة بعد أن فشل الائتلاف في صياغة مشروع وطني سوري تغييري واضح وجامع يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري، وبيان هوية سوريا الحقيقية المتنوعة ، وكذلك شكل الدولة السورية المستقبلي ، وطبيعة نظام الحكم فيها ، والعلاقة بين الدين والدولة؟. ألم يفشل الائتلاف وحكومته في إقامة نموذج حكم رشيد وإدارة ناجحة من أهل الاختصاص في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة المحسوبة عليهما، وهل يختلف شخصان بأن الإدارة في مناطق سيطرة ما يسمى بالجيش الوطني هي الأسوأ بالمقارنة مع الإدارة في بقية المناطق بما فيها المناطق التي تسيطر عليها جبهة النصرة سواءً لجهة الخدمات أو المستلزمات المعيشية والأمن والأمان ؟. بعد تمدد الجولاني ودخوله الهادئ وبدون أية مقاومة تذكر إلى كامل منطقة عفرين، وتحت مرأى ومسمع العالم أجمع، هل نحن أمام إمارة إسلامية في الشمال الغربي من سوريا ؟. هل حقاً جبهة الجولاني خرجت من عفرين نتيجة ردود الفعل الدولية بشكل عام والأمريكية بصورة خاصة ، أم أنها تلونت واختفت مؤقتاً، وأن شمال غرب سوريا بات أمام مرحلة تحول جديدة ؟. وماهي السيناريوهات المتوقعة لمصير آلاف مسلحي فصائل ما يسمى بـ الجيش الوطني ؟. ويبقى السؤال الأهم :