أن يتصفح المرء في إحدى المقاهي أو من منزله في القامشلي، ويقرأ ما دعت إليه صحفية معروفة في دمشق لاستخدام الكيماوي ضد قسد، وتزهو بفعلتها وتنتشي. فهو لن يستطيع طرد شبح القتل والمستقبل الأسود المنتظر، وخطاب الكراهية ضد الكورد في نفوس أمثالها. ولن يقدر على إبعاد شبح الموت المخيم على أطفالنا من مخيلته، ولعله يبدأ بتخيل الجثث المنتفخة والمتخشبة والمرمية في الأزقة والشوارع. مشهد لا يلبث أن يتحول إلى ردة فعل، تجعل من الأفرقاء المختلفين يتقاربون ضد هذه اللهجة المقيتة.
هذا ما يتبادر إلى ذهن الفرد وهو يشرع من مدينته بالتفكير بالمشهد العام لسوريا. دمشق هي العاصمة التي ترغب المكونات أن تكون عاصمتهم جميعاً، حيث مهد الحضارات التي حولها البعض إلى مصدر لتشريع حرق الأبرياء وبث السم والعنصرية والكراهية، وإن لم يكن الحدث على المستوى الرسمي، لكنه إعلام شبه رسمي. وحين يقف أحدنا على سطح منزله، يتطلع إلى الأفق من حوله، سيقول لنفسه: أهذه العاصمة التي أمني النفس في زيارتها دوماً؟
بتجرد من كل القيم الإنسانية والأخلاقية، طلبت الصحفية “غالية الطباع” والتي تعمل كمذيعة في إذاعة المدينة أف أم، بحرق الأطفال الأبرياء إلى جانب الكبار بالكيماوي. دعوة لا تنفصل أبداً عن النزعة الصدامية والدموية في حرق الأبرياء والمعارضين المدنيين والعسكريين عل حدٍّ سواء. حيث قالت الطباع: “أخ لو كنت وزير دفاع لأسلخ قسد وأطفالن أحلى كيماوي يخدم شواربن وأشعلن مشان نتدفى.. سمعة طالعة وطالعة، عقوبات موجودة موجودة” قبل أن تبادر إلى حذف شمول الأطفال بالحرق من منشورها. لكن وعلى المبدأ الجنائي المعروف “لا جريمة كاملة” فإن خيارات الفيس بوك تتيح معرفة وكشف التعديل على المنشورات، فإن الواقعة ما عاد من الممكن إنكارها أو تعديلها. ترغب طباع ومن ناصرها، أو سيناصرها بتدفئة جسدها عبر حرق أجساد أطفالنا، وقوات قسد. هذه القوات التي بات واضحاً حجم الخلاف والصراع بينها وبين “الجيش السوري” والحصار المتبادل الموجود الذي لا يدفع ثمنه سوى المدنيين الأبرياء. وإن كانت الإنسانية والعقلانية -وهي مغيبة بطبيعة الحال- تدعو إلى إبعاد المدنيين من الصراع والخلافات، فإن تركيبة وطبيعة الصراع الموجود لا يحتمل العقل البشري وصف الحل على استخدام الكيماوي في تصفية الحسابات. هكذا ببساطة، السلاح الكيماوي أصبح بمثابة لُعبة أطفال يُمكن استخدامها في أي لحظة.
أمثالها، هم الأشباح التي تضرب رأسك بكل ما يملكونه من أدوات حادة، غدراً وعلانية، بسبب أو بدونه، فقط إن شعروا أن ثمة من يفرح أو سيفرح قريباً، إذا ما نالوا حقوقهم الطبيعية، خارج سياقات السلطة والتزلف والانصياع، وقريباً من مسار الحقوق والعيش المشترك. هؤلاء هم الذين ينتكسون لغبطة غيرهم، حيث تفيض وجوههم كرهاً وغدراً، باحثين عن الفرصة للانقضاض على الآخر في لحظة سكينة وهدوء. هذا العجز عن مجارة ما يحصل في سوريا منذ عشرة أعوام، هو عمق تجربتنا والدليل على الفشل في اجتياز حقل الدماء إلى حقل الحوار. بعد عقدٍ من شلالات الدم، ثمة من يحتفل بصلافة بدعواته الشريرة لمواصلة سفك دماء الأطفال وحرقهم. لا يمكننا القول: إن هذا التكوين الشخصي والسريرة النفسية هي تصرفٌ شخصي، أو خارجٌ عن التوجه العام صوب التعريف بمواقفهم من المكونات المغايرة لهم، ما قيل ليس سوى الدليل الدامغ على العطب الفكري والسياسي الذي يحمله قسمٌ من النخب السياسية والفكرية، تجاه أبناء المحافظات الشرقية، وبشكل خاص ما يعاني منها الكورد، أكثر من غيرهم.
قبل أعوام اعتصم الكورد في حلبجة ومدن كوردية في إيران، كحال نشطاء كورد وعرب وسريان في القامشلي ضد استخدام الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة أغسطس 2013، وهجوم خان العسل في ضواحي حلب في مارس 2013. اعتصامٌ جاء كحالة لا شعورية تلبية لنبض الذاكرة الجمعية حول المآسي الكوردية سابقاً وتجرعهم للكيماوي، كآلية حوارٍ اتبعها النظام العراقي البائد، ضد معارضيه والمطالبين بالحقوق المشروعة. ذاك الاستخدام الذي لا تزال مكونات كوردستان العراق تئن من تأثيراته وتداعياته، ولا تزال الأجيال الجديدة تحمل من العاهات المستدامة أو الجلدية أو الجسدية ما لا يمكن إخفاء آثاره. ذاك الاعتصام تحديداً، يُمثل التعاضد البشري للكورد وكل من اعتصم في القامشلي مع السوريين المبتلين بالكيماوي حين ذاك.
تزهو السيدة غالية الطباع بدعوتها لحرق الأبرياء مع العسكري، وإن كان العسكري في نهاية المطاف إنسانٌ يحمل بندقيته وينفذ الأمر العسكري، لكن شرح واقع الدعوة تقول غير ذلك، فعن أيّ سمعةٍ تتحدث السيدة الطباع، هل استخدام الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة وخان العسل، تحول إلى العطر الذي تتباهى به. في نهاية المطاف، فإن غالبية من فقدوا حياتهم في الغوطة وخان العسل ليسوا سوى مدنيين وأطفال ونساء أبرياء، جمعتهم جميعاً رغبة العيش المريح وحرية التفكير والتعبير. حتى ضمن قسد نفسها، والتي لجأت المدونة إلى تعديل منشورها، لتخصصه للجناح العسكري للجسم السياسي والإداري المسيطر على المنطقة، فإنها دعوة أججت مشاعر وحساسية المجتمع المحلي، وما شهدته صفحات التواصل الاجتماعي من قبل النشطاء والكتاب السوريين المعارضين والناقمين على قسد، والمعارضين والساخطين على المنشور ومضمونه، ليس إلا دليلاً على الرفض السوري المطلق لهذا الطرح. عدا أن قسد نفسها تمثل جزءاً من المجتمع المحلي بتعقيداته وتشبيكه ومكوناته، فلا مجال لتصفية الحسابات إلا عبر الحوار الداخلي أولاً، والعام ثانياً، وليس عبر الدعوة لاستعمال أبشع وأرذل أنواع الأسلحة التي لا تُطبق على البشر. رُبما لم تعد المشكلة في الطرح وحده، إنما في عقلية من طرحت، فاستخدام الكيماوي على المنطقة الخاضعة لسيطرة قسد، هو تصور وطرح ساذج، وسيعني حتماً شمول المؤيدين والمعارضين والرماديين والحياديين وكل الشرائح، عدا عن تدمير البنية التحية من مياه ومراكز تحلية ومستودعات للحبوب ومخازن الأغذية…إلخ عدا عن الضاغط النفسي الذي لن ينسى أبداً هذه الدعوة.
ولعل المواقف الإنسانية للنخب الإعلامية والكتّاب السوريين ضد طرح استخدام الكيماوي، ممن لا يحملون الود والألفة لقسد، والإدارة الذاتية، فرصة جيدة لهذه الإدارة أن تراجع حساباتها وعقلها الإداري والسياسي المعطوب والمشلول عن التفكير، عدا أنه مُجرد طرح الكيماوي ضد قسد يعني بالضرورة أن المنطقة برمتها أصبحت تحت خطر الفناء.